تقرير: إيناس سويدان، سارا دويك، أثير برهم
يَلجأ الكثير من الفلسطينين في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية الصعبة التي يمرون بها، وهروباً من ضغوطات الحياة، إلى نزهة مشمسة تحت أشجار الزيتون في حقولهم، إلا أن هذا الحل البسيط غير متاح لدى أهالي بلدة عزون قضاء قلقيلية، حيث ابتلعت المياه العادمة أراضيهم، فهي لم تقضي على منطقة استجمامهم الوحيدة فقط، بل أيضاً أتلفت مصدر الرزق الوحيد لكثير من أهالي البلدة.
هذه الأراضي التي لطالما كانت المُتَنَفّس الوحيد للسكان، واسّتَمَعَت أشجارها لكثير من هموم المواطنين، باتت تستقبلهم على غير عادتها، فأحاطت المياه العادمة السوداء بالأشجار في كل زاوية، وتَناقَلت الرياح الروائح النتنة، وتكاثرت الحشرات بنسب عالية في البلدة، وركضت الحيوانات وبالأخص الخنازير والقوارض إلى هذه المنطقة المثالية لمعيشتها.
هذا المُتَنفّس أصبح كابوساً مُصّدِراً للمُلوِثات وانتشار الأمراض، بسبب التفريغ العشوائي للمياه العادمة في هذه الأراضي من البلدة، حتى تحول إلى كارثة ومكرهة بيئية.
" فشــة خلــق" من مواطنين بلـدة عزون
يقول الستيني مصطفى رَضّوان، الذي يبعد منزله أقل من 100 متر عن إحدى الأراضي التي تحولت إلى مكب للمياه العادمة، في مقابلة مع موقع أصداء الإخباري، "نسبة كبيرة من مياه المجاري في البلدة تُلقى بجانب منزلي، أشعر بِها وكأنَها داخل المنزل، الرائحة الكريهة جداً، والحشرات التي أنفَقتُ الآلاف فقط لمقاومتها، والمناظر الفظيعة، والآثار الجانبية لهذه المَكرهة الصحية، تلاحقُني في كل مكان، ولا مهرب منها سوى إغلاق الشبابيك والأبواب والبقاء في داخل المنزل، ولَكَ أن تتخيل معنى ذلِكَ في مثل هذا الأيام، التي تزيد فيها درجة الحرارة عن 40 درجة مئوية".
ليس هذا فقط، فالأمراض بدأت تَتَفشى في أفراد عائلة رضوان، ابتداءاً بابنه الشاب الذي بدأ يعاني من مشاكل في الجيوب الأنفية بسبب الروائح المُنبَعِثة في المنطقة، ومروراً بأمه وجيرانه الذين تَجاوزت أعمرهم ال 80 عاماً، ولم يعودوا قادرين على تحمل آثار هذه المكرهة، ووصولاً له الذي تصيبه الحساسية الشديدة، في كل مرة يتعرض فيها لقرصة من أحد أنواع الحشرات التي تكاثرت حولهم.
شكاوى المواطنين من هذا الوضع بدأت ترتفع بشكل جنوني، توجهوا لجميع الجهات المختصة، ولكن لا مجيب أو رادع لأصحاب تنكات النضح، الذين يفرغون حمولتهم متخفيين في أقرب نقطة يرونها مناسبة حسب مقاييسهم دون اكتراث.
ويُنَوه المواطن ادم بدوان لموقع أصداء الإخباري، "توجههنا بالشكاوي للبلدية 20 ألف مرة، ولكن لم يحركوا ساكن، يبدو أن مصالحهم الشخصية لا تسمح لهم بإيقاف أصحاب التنكات عن أفعالهم هذه، وبدلاً من حل هذه المشكلة من جذورها، يُثيرون الفِتن بين أبناء البلدة عند ذكر أسماء المشتكين لأصحاب تنكات النضح".
ويَذكر بدوان أن منزله عند مدخل البلدة من الجهة الشرقية، التي حولتها البلدية من منطقة جمالية لمكب نفايات كبير، تُلقي فيه النفايات من جهة وتُفرغ فيه المياه العادمة من جهة أخرى.
ويضيف بدوان " لا أعلم ماذا يقصدون بهذه الأفعال، نحن أيضاً نعيش هنا، ونلتزم بدفع مستحقات خدماتنا للبلدية، بالرغم من أننا لا نرى شيئاً منها".
لا حلـول بديـلة..
توجهنا في فريق أصداء الإخباري إلى بلدية عزون، لنستقصي خلفيات هذه الكارثة البيئية، وفي مقابلة مع وجدي سليم رئيس بلدية عزون، أكد لنا أن أصل هذه المشكلة هو عدم وجود شبكة صرف صحي، أو محطة تنقية، أو أي مكان مؤهل لإلقاء هذه المخلفات في البلدة، وأن مشروع كهذا يحتاج إلى تكلفة كبيرة تفوق قدرة البلدية.
ويضيف سليم "إيقاف عمليات التفريغ العشوائي عملية صعبة جداً، لأنها تمارس خارج أوقات دوام البلدية، ولا يوجد حلول بديلة عما هو موجود حالياً، والمفروض أن يتأنى أصحاب التنكات أكثر قبل اختيارهم للأرض، وأن يبتعدوا عن المناطق السكنية قدر الإمكان".
ومن ناحيته يقول "س" أحد أصحاب تنكات النضخ الذي رفض عن كشف اسمه لموقع أصداء الإخباري، أن ما يدفعه لإفراغها بهذه الطريقة، هو عدم وجود بديل أو مكان مخصص من البلدية أو الصحة لإفراغ المياه العادمة فيه، ولذلك يُجّبَر على أن يُفرغها في حقول الحمضيات والزيتون.
ويضيف "س" "أنا أعلم أن هذا له آثار سلبية كثيرة، فأنا أيضاً مواطن وأعاني منها، ولكن لا يوجد بيدي حل آخر، فهذه ليست مسؤوليتي، بل مسؤولية البلدية والصحة، أنا لا أستطيع حل هذه المشكلة وحدي، وليس من العدل أن أتحملها كاملة، فأنا أيضاً لي عائلة وهذا مصدر دخلي الوحيد، ولو توقفت عن العمل لن يستطيع أهالي البلدة متابعة حياتهم اليومية، بل ستفيض عزون بمياه المجاري، ناهيك عن المشاكل الكبيرة التي تلاحقني من المتضرررين وأصحاب الأرضي، هذه المشكلة تحتاج لحل جذري".
وينص قانون المياه الفلسطيني، أن في حالة عدم وجود شبكة صرف صحي في البلدة، يجب تفريغها في أقرب محطة تنقية عليها، وبالتالي من المفترض أن يتم تفريغها في محطة تنقية مدينة قلقيلية.
إلا أن "س" علق على ذلك بأن المسافة بين عزون وقلقيلية ستزيد من سعر سحب الحفرة الامتصاصية إلى مئة شيقل على الأقل بدلاً من أربعين، وهذا سيزيد التكلفة على المواطن الذي سيعلن احتجاجه على هذا السعر، وهنا سيقف مصير 2000 حفرة امتصاصية في البلدة.
القانـون: "حبــر علـى ورق"
وحسب المادة 18 من قانون المياه الفلسطيني، نص البند الأول أن الهيئة المحلية هي المسؤول عن التفتيش والرقابة للتحقق من الالتزام بأحكام هذا النظام داخل حدود الهيئة المحلية.
وبعد تَوَجُّهِهنا إلى صحة محافظة قلقيلية، أكد المهندس عمار غانم رئيس قسم الصحة والبيئة لموقع أصداء الإخباري، أن وزارة الصحة ليس لها علاقة، وأن موضوع الصرف الصحي من مهام البلديات التي يفترض أن تبحث عن داعم لمشروع يفيد البلدة، أو تبحث عن حل لمشاكلها الخاصة.
ويقول غانم "الشكاوي التي تصل الوزارة من المواطنين في البلدة هي ثقل على كاهلنا، وأننا نأخذ الشكاوي من المواطنين بعين الاعتبار ونرسل الإخطارات ونحول أصحاب التنكات إلى المحاكم، ولكن هنا تصل حدود عملنا".
بينما يذكر نضال حنون رئيس قسم الصحة والبيئة في بلدية عزون لموقع أصداء الإخباري، "نحن متساهلين قليلاً مع أصحاب التنكات في مخالفتهم، لأننا لو أردنا تطبيق القانون بحذافيره سوف يَترُك أصحاب التنكات عملهم، وفي هذه الحالة ستبتلع المياه العادمة البلدة كاملة".
وينوه حنون أن البلدية حاولت توفير حلول ولكن على قدر إمكانياتها وأولوياتها، فقد خططت البلدية لمشروع صرف صحي جهزت له الخرائط والأبحاث والفحص الجيولوجي المطلوب للتربة، حسب مقاييس موافق عليها، ولكن حتى الآن لا يوجد ممول لهذا المشروع.
وفي حديث لأصداء الإخباري مع الدكتور والخبير البيئي رائد الكوني، عن الأثر المدمر لهذه المكرهة الصحية على الإنسان والبر والجو، أشار الكوني أن نسبة ضرر المياه العادمة مرتبط بمصدرها، ولكنها تحتوي على مواد مضرة بصحة الإنسان في الغالب، ومع أننا نلاحظ تنوع حيوي كبير في المنطقة التي تجري فيها المياه العادمة، إلا أن هذا التنوع ليس سليم وجيد لصحة الإنسان دائماً، فتكثر فيه الحشرات والقوارض والروائح الكريهة التي تؤذي سكان المنطقة.
ويتابع الكوني " التربة هي الحاضنة للحياة، فلو لم نعتني بها وزودنا كمية المياه العادمة، سترتفع نسبة الملوحة في التربة، مما سيقضي على الحياة، وتصبح الأرض غير صالحة للاستخدام الزراعي، ولكن لو تم معالجتها بطريقة صحيحة، من الممكن أن تكون مصدر مهم للمياه، في ظل الشح الكبير الذي نعيشه".
لا تزال هذه الكارثة البيئة مستمرة، وما زالت في تقاقم ولا بصيص أملٍ لحلٍ قريب.