بقلم: فادي أبو بكر
31/10/2018
المنشأ الطبيعي لما يسمى بالجهاز الطبي في مديرية السجون الإسرائيلية هو أن يتولى مسؤولية صحة الأسرى وعلاجهم، إلا أن الواقع الذي تشهده المعتقلات الإسرائيلية منذ بداية تشييدها وحتى يومنا هذا، يُظهر أن هذا الجهاز الطبي يمثل ركناً أساسياً وحيوياً في السياسة الإسرائيلية العامة التي تستهدف الأسرى أمنياً ونفسياً وصحياً.
نستعين في هذه الورقة بشهادات حية من داخل الأسر، ومن فترتين متباعدتين، لكشف المبدأ الناظم لسياسة "الجهاز الطبي" إزاء الأسرى المرضى. حيث نستعرض شهادة الأسير المحرر قدري أبوبكر ( أمضى سبعة عشر عاماً في الأسر الإسرائيلي في الفترة ما بين 1970- 1987) من خلال مراجعة كتابه "من القمع إلى السلطة الثورية" المنشور في العام 1989م ، وأخرى للأسير ويليام الريماوي ( معتقل منذ 2 نيسان/ أبريل 2002 ويقضي حكماً بالسجن 32 عاماً) في محاولة لتغطية طبيعة دور الجهاز الطبي منذ بدايات ظاهرة الأسرى الفلسطينيين وحتى يومنا هذا.
أين الطبيب ؟
يقول أبو بكر في كتابه "من القمع إلى السلطة الثورية" أن "الإهمال الطبي أدى إلى تفاقم الأمراض البسيطة لتصبح مزمنة كالأمراض الجلدية والتهاب اللوزتين والأمراض الباطنية وآلام الظهر وغيرها". كما يشير إلى أن الأسرى كانوا يطالبون بمرور الممرض على الغرف ثلاث مرات يومياً بدلاً من واحدة، لأن الإدارة تمارس القمع والتشكيك من خلال العيادة وتبحث عن ثغرة للوصول إلى عميلها بين الأسرى، حيث أصبحت العيادة والمهنة الإنسانية أداة حرب ضد الأسرى.
يقضي قانون مصلحة السجون أنه يجب على الطبيب أن يبقى متواجداً 24 ساعة بحيث يكون هناك طبيب مناوب ليلاً، وأن يكون هناك ممرض يتجول ما بين الأقسام ثلاث مرات يومياً، إلا أن الأسير الريماوي يؤكد أن "هذا لا يحصل وليس معمولاً به وأن الطبيب من الصعب أن تجده حتى في النهار وفي ساعات الدوام الرسمية . والممرض فلا تجده إلا مرة واحدة يقوم بعمل جولة خلالها، أما بخصوص الحالات الطارئة والمستعصية التي هي بحاجة لعمليات جراحية فالأسير كان يجلس ويتنظر دوره لإجراء العملية الجراحية وهذا الانتظار يأخذ شهر أو شهرين وربما ثلاثة وربما يصل لسنة أوسنة ونصف. بمعنى آخر إذا كانت حالة الأسير ممكن علاجها فبانتظاره يستعصي العلاج ويكون العلاج مستحيل وهذا كله يتنافى مع الأعراف والمواثيق الدولية".
ما بين الأمس واليوم، لا يشهد النظام الطبي المعمول به في المعتقلات الإسرائيلية إلا هبوطاً أكثر فأكثر، حيث أن وجود الطبيب أو الممرض بين الغرف والأقسام أصبح نادراً، وحتى وجوده أو عدمه أصبحا سيان بالنسبة للأسرى الفلسطينيين.
العلاج السحري في المعتقلات الإسرائيلية
يذكر أبو بكر في كتابه "من القمع إلى السلطة الثورية" قصة ممرض اسمه (حاييم) يمسك في يده أربعة أرباع من حبة بيضاء (الأسبرين) ويمر على مجموعة من طالبي العلاج فيسأل الأول: ماذا يؤلمك؟ فيجيب.. (رأسي)، فيتكرم ويعطيه ربع حبة ، ثم يسأل الثاني ( ماذا بك؟) فيجيب (بطني يؤلمني) فيعطيه الربع الثاني، وآخر قدمي تؤلمني، فيحصل على الربع الثالث وهكذا .. في معتقل السبع قال أحد الأسرى للممرض: قميصي يؤلمني، فأعطاه حبة أسبرين!.
وفي نفس السياق يقول الأسير ويليام الريماوي: " أن أكثر شيء يصرف كعلاج الأكامول كمسكن وكان ينصح بشرب الساخن من قبل الممرض وهذا الأمر قائم حتى يومنا هذا لدرجة أن بعض الأسرى تصور أن يكون أحد مسؤولي إدارة السجون وكيل لهذا الدواء –الأكامول-!."
ما زالت الخدمات العلاجية التي يوفرها أطباء وممرضو المعتقلات الإسرائيلية للأسرى المرضى تقتصر على حبة (الأكامول أو الأسبرين)، وقد لا نستغرب إذا سمعنا مستقبلاً أن إدارة مصلحة السجون تستثمر أسهماً في شركات الأدوية هذه!. من جانب آخر فإن هذا العلاج السحري الوحيد المتراكم في أجساد الأسرى المرضى على اختلاف أمراضهم، هو مرض بحد ذاته، فقد أثبتت عشرات الدراسات الطبية أن كثرة تعاطي مثل هذه المسكنات يحدث مرض الكلى.
يسترسل الريماوي في الكشف عن الواقع الصحي للمعتقلات، حيث يقول أن :" الممرض كان في بعض الأحيان يصرف علاجاً ليس موصى به ما أدى لإصابة المرضى بأمراض أخرى، ناهيك عن المعاملة اللاخلاقية واللاانسانية في التعامل من قبل طاقم الممرضين، بل أن الممرضين في بعض عمليات القمع كانوا على رأسها، بمعنى آخر وبعيد عن التحيز إن علاج الحيوانات أفضل من علاج الأسير".
نستخلص مما سبق أن هناك نموذجان للجهاز الطبي في المعتقلات: طبيب يستطيع المعالجة ولا يفعل، وآخر يستعمل أساليب قذرة لقتل الأسرى جسدياً والتأثير عليهم معنوياً.
غياب الشمس
يستذكر أبو بكر في كتابه الإضراب المفتوح عن الفورة (التنزه في ساحة المعتقل) عام 1973م الذي قررت القيادة الاعتقالية لمعتقل بئر السبع الدخول فيه كرد على سياسات إدارة مصلحة السجون التعسفية بحق الأسرى، واستمر لمدة ثلاثة عشر شهراً، حيث يقول:" أن مشكة الشمس التي لا تدخل علينا لفترة طويلة ( ثلاثة عشر شهراً) خلّفت العديد من حالات الأمراض الجلدية وانتشار الفطريات، كما أن الجو الخانق داخل الغرف ترك حالات ضيق نفس وأمراض صدرية". وعليه يمكن لنا أن نتخيل مدى الضرر الصحي الذي تعانيه الأسيرات المضربات عن الفورة في معتقل هشارون منذ الخامس من أيلول / 2018 (أي ما يقارب الشهرين)، حيث أن عدم الاستجابة لمطالبهم البسيطة العادلة المتمثلة في وقف تشغيل كاميرات المراقبة على ساحة المعتقل، يشكل خطراً على حياتهن، بواقع أن الأمراض التي ستصيبهن، وإن كانت بسيطة ستتفاقم بفعل النظام الذي يعمل به ما يسمى بالجهاز الطبي.
اكتظاظ المعتقلات
يشير أبو بكر إلى أن" ضيق المساحة كانت من أهم المؤثرات السيئة على صحة الأسرى، حيث أن عدم القدرة على الحركة الكافية سببت العديد من الأمراض كالباسور والآلام الباطنية وآلام الظهر".
تشهد المعتقلات الإسرائيلية حالياً اكتظاظاً كبيراً بفعل تصاعد سياسة الإعتقال بحق الفلسطينيين، وعلى الرغم من إصدار المحكمة العليا الإسرائيلية قراراً في حزيران/يونيو 2018م يُلزم إدارة مصلحة السجون بإيجاد حلول لمشكلة الاكتظاظ وتوفير مساحة للأسرى لا تقل عن 3 أمتار مربعة حتى نهاية العام 2018، إلا أن وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي جلعاد أردان أوقف خطة توسيع المساحة المعيشية للأسرى. حيث أصدر أردان أوامره في الأول من آب/أغسطس 2018 لمصلحة السجون الإسرائيلية بوقف خطة توسيع مساحة المعيشة للأسرى، بادعاء أن وزارة المالية لم تنقل بعد الميزانية اللازمة لتنفيذ قرار المحكمة العليا في هذا الشأن.
يمثل اكتظاظ المعتقلات بحد ذاته انتهاكاً لصحة الأسرى ولكرامتهم الإنسانية، حيث أن السلطات الإسرائيلية تواصل تعنتها وتصر على عدم الالتزام بجعل السجون ملائمة للبشر، فالمساحة المعيشية المتوفرة لكل أسير فلسطيني لا تتماشى مع القوانين الدولية ولا حتى مع القوانين المحلية الإسرائيلية.
ظروف الزنازين الغير آدمية
أما عن الظروف المعيشية للزنازين في فترة التحقيق يؤكد الريماوي أن " حالة النظافة معدومة وأن الأسرى يحرمون من الاستحمام لفترة زمنية وهذا كان له الأثر في إصابة الجسد بالأمراض الجلدية. وكان بعض الأسرى يصابون بأمراض في عيونهم وهناك البعض فقدوا البصر والبعض فقد السمع. وحتى وإن كان هناك استحمام فيكون الوقت محدود و(البشاكير) التي يتنشف بها الأسير قد تنشف بها أكثر من أسير قبله وتكون متسخة، وهذا أيضاً يسبب أمراضاً جلدية ، وهذه الحالة تستمر حتى وإن اعترف الأسير فترة ما بين 12 -30 يوم، والتعامل يزداد سوء، ناهيك عن الحشرات الموجودة كالتي تسمى "البق" في الزنازين ما يسبب طفوح جلدية وكل هذا حلقة من مسلسل العذاب والألم والمرار المتبعة بحق هذا الأسير".
مقبرة الرملة
حول ما يسمى بمستشفى الرملة، يقول أبوبكر: "أن الرحلة إليه وحدها قاتلة، وأنه لا يستحق هذا اللقب فهو مكان للجريمة للعديد من جرائم العدو ومركز لمخابراته، فحتى رئيس الأطباء يمارس مهنة التجنيد للمخابرات، لا نظافة ولا جهاز طبي ولا علاج ولا ممرضين هذا هو مستشفى الرملة بحسب تعبيره".
ما بين الأمس واليوم، لم تتحسن الأحوال الصحية بالنسبة للأسرى، بل تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ويقول الأسير ويليام الريماوي عن ما يسمى بمستشفى الرملة: "أنه معتقل وليس مستشفى، ففي بعض الحالات يتم الاعتداء على بعض الأسرى في العيادة على مرأى ومسمع من الطبيب"، وعن إضراب الطعام المفتوح الأخير (إضراب الكرامة) الذي خاضته الحركة الأسيرة في نيسان/أبريل2017م، يفيد الريماوي بصفته أحد قادة هذا الإضراب: "أنه قد تعرض مئات الأسرى لضغط الطبيب والممرض وطاقم العيادة في كافة السجون من خلال الاستفراد بكل أسير مضرب محاولين إقناعه بتناول الطعام، وأنه سيموت ويخسر حياته وأنه سيعاني من أمراض كثيرة كمردود سلبي لعملية الإضراب عن الطعام، كأن يصبح مع الأسير عجز جنسي وأنه يعمل على تساقط الشعر ويسبب بواسير ومرض في المعدة، ويكون له مردود سلبي على النظر.. والخ. وأنهم لا يستطيعون إعطائه الدواء والعلاج إلا إذا أكل وتناول الطعام. وإن لم ينجحوا في ذلك كانوا يستخدمون القوة الجسدية أحياناً".
يتواجد في الرملة عدد من الأسرى المصابين بأمراض القلب والسرطان والشلل والفشل الكلوي والربو وأمراض أخرى، ويقيم 19 أسيراً بشكل دائم في ما يسمى بمستشفى سجن الرملة. يُذكر أن هذا "المستشفى" لا يمتلك مقومات طبية حقيقية، ودون مستلزمات وأدوية وأجهزة مساعدة وأطباء مختصين، رغم أن كل من فيه هم من أصحاب الأمراض الخطيرة، ويحتاجون عناية فائقة، وبذلك يحق للأسرى أن يطلقوا على هذا المستشفى اسم مقبرة الأحياء.
جرائم قتل مع سبق الإصرار
ارتكبت الأجهزة الطبية جرائم قتل مع سبق الإصرار، ونستذكر هنا الأسيرين الشهيدين علي الجعفري وراسم حلاوة اللذان قُتلوا في إضراب نفحة عام 1980، حينما قام الأطباء الإسرائيليون بوضع ( برابيش) الحليب في رئتيهما بدلاً من المعدة، ما تسبب بحدوث نزيف داخلي أودى بحياتهما (يعرف هذا الإجراء باسم "الزوندا" وهي طريقة ممنوعة دولياً لإطعام الأسير بالقوة). وبحسب أبو بكر فإن "الجرائم في الجهاز الطبي يسهل إخفاؤها فليس أسهل من كتابة تقرير طبي يصف الوفاة بأنها طبيعية أو بسبب مرض ما".
يُذكر أن عدد شهداء الحركة الأسيرة بلغ 217 شهيداً منذ عام 1967، منهم 76 أسيراً استشهدوا بعد قرار بتصفيتهم وإعدامهم بعد الاعتقال، و72 استشهدوا نتيجة للتعذيب، و62 استشهدوا نتيجة للإهمال الطبي، وسبعة أسرى استشهدوا نتيجة لإطلاق النار المباشر عليهم من قبل جنود وحراس داخل المعتقلات.
خاتمة:
يبلغ عدد الأسرى المرضى في المعتقلات الإسرائيلية 1200 أسيراً مريضاً، بينهم 140 يعانون من أمراض تصنّف بالخطرة والصعبة، ومنهم 21 أسيراً يعانون من مرض السّرطان، و34 يعانون إعاقة حركية. إلا أن هذه الإحصائيات لا تعني أن باقي الأسرى بصحة جيدة، فيكاد لا يخلو أسير تحرر من معتقلات الاحتلال من أي مرض أو أي علة نفسية كانت أم صحية، خصوصاً في ظل الظروف والمعطيات التي أوردناها في هذه الورقة.
في ضوء هذا الواقع الصحي المزري، يمكن القول أن ما يقوم به ما يسمى بالجهاز الطبي في إدارة مصلحة السجون هو ليس إهمالاً طبياً فحسب، بل هو قتل مع سبق الإصرار، فالتأخير في علاج مصاب بنوبة قلبية ساعتين أو إعطاء مسكنات آلام كعلاج لأمراض تستوجب علاجاً فورياً أو مساومة المريض على العلاج هو قتل .. قتل مع سبق الإصرار والترصد.
يتجاوز هذا "الجهاز الطبي" وحسب ما أثبتته الأحداث وتاريخ الحركة الأسيرة ماضياً وحاضراً، مهامه وأهدافه المهنية في الطب والعلاج والاهتمام بصحة وسلامة الأسير الفلسطيني، ليمثل ركناً أساسياً من المؤسسة الأمنية والاستخبارية لمديرية السجون القمعية في استهدافها الأسرى الفلسطينيين. بمعنى أن الجهاز الطبي الإسرائيلي ما هو إلا امتداد للتعذيب المخابراتي للأسرى وأداة قتل لهم. وهكذا فإن الحرب الصحية على الأسرى بما تتضمنه من سياسة الترهيب والترغيب والاستغلال البشع للحالة الصحية والمرضية هي منهج ثابت، بل هي جزء من بنية مصلحة السجون الإسرائيلية ووظيفتها التي أنشئت من أجلها.