كثيرة هي الدراسات الإسرائيلية التي سعت للتعرف على الأهداف التي من أجلها أنشئت هذه الأجهزة الأمنية، وطريقة عملها، لا سيما أن عالم المخابرات مكون من بناء تقليدي، لا ترى أنه يتناسب بالفعل مع حجم التحديات الأمنية والاحتياجات الإستراتيجية التي تواجه إسرائيل.
بل إن بعض الباحثين الإسرائيليين امتلك قدرا كبيرا من الجرأة، حين قال إن عالم المخابرات الإسرائيلية ليس لديه قيادة أو رأس أو مدير يديرها مجتمعة، وتفتقر للمؤسسات العامة، باستثناء لجنة رؤساء الأجهزة، التي تعدّ في بعض الأحيان جسما تنسيقيا بديلا، لكنها على أرض الواقع تفتقر للصلاحيات، والوصول بهذه الأجهزة لقرار الحسم.
وبالتالي، لا يوجد في مؤسسة الاستخبارات الإسرائيلية خطة عمل مشتركة، وليس هناك من تنسيق في مجال بناء القوة بين الأجهزة الأمنية المختلفة، وأكثر من ذلك تفتقر هذه الأجهزة المكونة لعالم الاستخبارات للرؤية العامة التي تحدد بموجبها التحديات الماثلة أمام الدولة.
ففي حين أن جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان" تابع إداريا وتنظيميا لرئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، والموازنة المالية التي يحصل عليها جزء أساسي من موازنته، إلا أن جهازي "الشاباك والموساد" تابعان مباشرة لرئيس الحكومة، وتعدّ موازنتهما جزءا أساسيا من موازنة مكتبه، وبالتالي ليس هناك من جسم إداري تنظيمي يحدد طبيعة الموازنات، وآلية صرفها، ومجالات الإنفاق فيها.
علما أن هذه الرؤية نشأت خلال العقد الأول من قيام الدولة، ومنذ تلك اللحظة لم يطرأ عليها تغيير يذكر ذو قيمة حقيقية.
وفي الماضي أيضا، لم تحقق التطورات الجوهرية التي مرت بها الدولة تغييرات جادة على طبيعة البناء الإداري لهذه الأجهزة الأمنية، إلا أن الواقع اليوم مختلف جدا عما سبقه، والظروف الحرجة التي تمر بها إسرائيل تحتم إجراء مثل هذا التغيير في سبيل الوصول إلى وضع أمني أفضل.
هذه الحاجة للتغيير تنبع أساسا من أمرين هامين:
تغير طبيعة التهديدات الأمنية التي تحيط بإسرائيل، من حيث تعاظم قوة هذه التهديدات من جهة، ومن جهة أخرى تزايد الحاجة للدور الأمني والاستخباري لتولي مهمة معالجتها.
المستجدات الميدانية على "البيئة الخارجية" التي تعمل فيها أجهزة الأمن الإسرائيلية.
ومن ذلك على سبيل المثال: ثورة المعرفة، تكنولوجيا المعلومات، ارتفاع مستوى التطورات العلمية، بحيث غدت مؤثرا جوهريا على طبيعة العمليات الاستخبارية والأمنية، وتطور الأمر ليصبح عنصرا أساسيا في النظرة لتنفيذ تلك المهام، والعوامل المحيطة بها.
وفي ساحات إقليمية إستراتيجية تعدّ نافذة هامة لعمل الاستخبارات الإسرائيلية تبرز فورا تهديدات حيوية، ما يجعل الأجهزة الأمنية تتعامل معهما بصورة انفرادية، كل على حدة، ويجبر أجهزة المخابرات على عدم التعامل بشكل منسق ومتفق عليه بين مختلف أذرعها العاملة.
إن نظرة سريعة على طبيعة التهديدات التي تواجه إسرائيل خلال السنوات العشر الجارية، تحتم النظر للبيئة الإستراتيجية المحيطة بها، بجانب ما حصل في عالم التكنولوجيا من تطورات متلاحقة، وما قد تقدمه من خدمات لأي عمل أمني تقوم به الدولة، وهذا كله بحاجة لما يمكن أن نسميه "ناظما" لعمل المخابرات الإسرائيلية بمختلف أجهزتها ومكوناتها، لكي تقدم عملا مجزيا لصالح الدولة، ذا فوائد عظيمة على المدى البعيد.
هذا الواقع المليء بالتحديات الإستراتيجية والمخاوف الأمنية من شأنه أن يلزم الاستخبارات الإسرائيلية بمزيد من التعاون والتنسيق بصورة أكثر عمقا؛ لأنه في حالة لم يحصل مثل هذا التنسيق والتعاون، فقد نرى في ضوء تزايد التهديدات ارتفاعا لمستوى التوتر بين تلك الأجهزة، وخلافات قد تعصف بـ"الرؤية الأمنية" للدولة كلها.
وإذا كانت الخمسون سنة الأولى من عمر إسرائيل أكدت أن الجيش هو الجسم الأكثر مركزية وأهمية فيها، لمواجهة التهديدات الأمنية الخطيرة القادمة من الخارج، فإن الأمر اليوم يبدو مختلفا جدا، لأن "الموساد والشاباك" ينظران لنفسيهما كما لو كانا يتصديان للجبهة الأمنية التي تتهدد إسرائيل، والقيام بموجب هذه النظرة بعدد من المهام، أهمها:
أ- إحباط عمليات معادية تنفذها منظمات مسلحة.
ب- إيقاف أي تقدم في برامج التسلح غير التقليدي.
وهناك حالة من الرضا عن الجهود الأمنية التي يبذلها الجهازان، رغم حالة التضارب التي قد تقع بينهما عند تنفيذ مهمة ما، مع العلم أن أحد لجان التحقيق الإسرائيلية وصلت لقناعة مفادها أنه لا بد من إقامة رابط تنسيقي بين مؤسسة الاستخبارات الإسرائيلية بشكل عام، ومكتب رئيس الحكومة، الذي سيكون من مهامه الأساسية تقديم الدعم والإسناد له في اتخاذ القرارات الهامة.
هذه التوصية لا تدعو بنظر واضعيها الإسرائيليين لرفع "الوصاية" أو "التبعية" التي يخضع لها الموساد والشاباك لرئيس الحكومة مباشرة، أو وقف إشراف رئيس هيئة أركان الجيش على جهاز الاستخبارات العسكرية، لكن المقصود بذلك إقامة أجهزة إدارية ولجان فنية لتطبيق التوجهات التي تخرج بها الأجهزة الأمنية، ومنها:
إقامة طواقم متخصصة بالشأن الإقليمي، الذي يشكل قاسما مشتركا لمختلف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.
تشكيل لجان مشتركة للبحث في قضايا فنية متعددة المجالات، مثل لجنة لبحث جمع المعلومات عن طريق المصادر البشرية "يومنت"، ولجنة لفحص المعلومات الأمنية الواردة من مصادر إلكترونية "سيغنت"، وإيجاد جهات محددة للتنسيق بين المصادر البشرية والإلكترونية.
تحافظ كل جهة أمنية وجهاز استخباري على "هويته" التي تميزه عن سواه، للخروج بصورة شاملة عن عالم الاستخبارات الإسرائيلية، كما لو كانت "مايسترو" ينظم العمل، وبأهداف محددة، وخطط عمل منسقة، بحيث يغدو كل جهاز أمني ذا وحدات ومهام خاصة به.
هنا تجدر الإشارة إلى أن الحاجة الإسرائيلية لبناء هذه الجهة التنظيمية، جاءت بناء على تقييم وخلاصة تحققت من خلال النظر عبر عدة اتجاهات مختلفة في سياق العمل الاستخباري الإسرائيلي، من خلال عدة نظرات:
نظرة للحاضر: لإجراء تشريح للواقع التنظيمي الحالي الذي تعيشه المؤسسات الأمنية الإسرائيلية.
نظرة للماضي: بالقيام بعملية مراجعة تاريخية توضح لماذا وصلت مؤسسة الأمن في إسرائيل لما هي عليه اليوم، واستخلاص دروس من الماضي.
نظرة للمستقبل: إجراء مسح كامل لمختلف التهديدات الأمنية التي تحيط بإسرائيل، خلال العقد القادم، وحجم المهام الملقاة على الأجهزة الأمنية.
نظرة لما وراء البحار: من خلال إجراء مقارنة سريعة لما هو عليه الحال في أجهزة الأمن الأمريكية والبريطانية.
غزة- عربي21- عدنان أبو عامر