نابلس : من اسراء بشارات
عام 1948 ، تلك السنة التي توقف عندها المستقبل في حياة الفلسطينيين الذين هجروا وقتلوا وسلبوا تاريخهم وأرضهم وإنسانيتهم ودماءهم ولازالوا يدفعون ثمن شيء لم يقترفوه، وسطرت بعدها لتاريخ جديد عنوانه الرعب والدم والدموع والأمل وصيحات المواليد الجدد في مخيمات اللجوء ، واستماتة أم شهيد لا تريد أن تبكي على استشهاد فلذة كبدها لأنها ستنهار لو فعلت العكس.
تروي الحاجة سميحة (أم أيمن) ثمانين عاماً في مخيم بلاطة شرق مدينة نابلس حكاية نزوحها ولجوئها :" ولدت عام1936 في بلدة "المويلح " قضاء مدينة يافا وفي سن العاشرة من عمري وصلتنا أنباء المجازر التي نفذتها عصابات "الهاجاناة " الإسرائيلية، مجازر كثيرة سمعنا عنها، وعاشوها من حولنا، لقد وضع برج لقنص كل من يحاول الخروج من القرية أو التوجه لحقله، فقريبتي تم قتل زوجها أمام عينيها، هربنا خوفا مما رأيناه، حملنا القليل وتركنا متاعنا وحاجياتنا بالمنزل، كان الخوف علينا كأطفال وقتها هو الذي اضطرنا إلى الرحيل."
قرية المويلح التي تعد جزء من السهل الساحلي الفلسطيني ، تقع على بعد نحو كيلو متر شرقي الطريق العام المؤدي إلى يافا، ويحدها من الشمال قرية "بيار عدس"، ومن الجنوب قرية "المر"، ومن الشرق بلدة "كفر قاسم"، أما من الغرب فيجاورها قرية "أبو كشك" ، ويتواجد القسم الأكبر من سكان المويلح الذين هجروا عام (1948) رغماً عنهم ليلقوا حتفهم في خيم من قماش لاتقي اللاجئ من برد الشتاء وحر الصيف موزعين في مخيمات اللجوء منها مخيم بلاطة في الضفة الغربية ومخيم البقعة في الأردن، كما يتواجد آخرين في لبنان والإمارات والسعودية والنرويج واليمن.
جاب الحديث عن جرح النكبة الغائر ذكريات مؤلمة في مخيلة الحاجة أم أيمن و وأكملت حديثها "توجهنا إلى مدينة كفر قاسم وبتنا فيها ثلاثة ليال ثم وصلت المجازر إليها ورحلنا بعدها إلى "خربة سرطة " ثم إلى قرية "رافات" قرب مدينة سلفيت عشنا قيظ الصيف هناك و تحت الشجر لمدة 6 شهور، خلالها لم نجد ما نأكله، كان وقت الحصاد وكان أهلنا يتسللون إلى أراضينا في المويلح لحصاد القمح وجلبه إلينا لنأكله، ولكن علم الاحتلال بما نقوم به فقام بإحراق جميع الحقول واستشهد خلال هجرتنا عبد الله أبو علوش، وأصيب آخرون، منهم سعود الطيطي ومريم مناور وتمام أبو عايش. "
"وبعدها سكنا في بيوت أهل القرية مدة تسع سنوات تزوجت خلالها ورحلت بعدها إلى مخيم بلاطة مع زوجي في مدينة نابلس، كانت أيام مريرة وعصيبة، قتل ودمار وسلب، لم يفرقوا بين كهل وطفل أو امرأة ورجل، كنا نعتقد أننا سنخرج لفترة من الزمن، أيام معدودة وسنرجع إلى بيتنا وبياراتنا، ولكن الأيام امتدت لأسابيع وأشهر وسنين.
وتضيف أم أيمن "سبعون عاماً مضت ونحن ننتظر العودة إلى الديار، بعد وصولنا إلى المخيم واستقرارنا هنا وأنجبت ثمانية أبناء ، قمنا ببناء منازل طينية وعندما حل الشتاء في الخمسينيات تقريبا، هطل مطر غزير، هدمت البيوت فوق رؤوسنا، تشتتنا وعانينا الأمرين بهجرتنا، تفاصيل كثيرة عندما أتذكرها ابكي ندما وقهرا على هجرتي وعمري الذي مضى بعيدة عن بلدي وأهلي، كان التشتت مصيرنا بعد عام 1949 وما زلت أروي بثقة لأحفادي الأربعين عن التاريخ والذاكرة كي لا ننسى فالخيانة العظمى هي أن ننسى من كنّا وكيف أصبحنا."
تتابع الحاجة قصتها وتقول :"زرت القرية أول مرة سنة( 1972) وجدت فيها بقايا بيتنا وبيوت الجيران، نبتت عليها الشجيرات، وقبل فترة زرت كفر قاسم لعزاء احد الأقارب، توجهت إلى مكان بيتي وقريتي بيافا، لم أجد فيها شيء، لم اعلم المكان كانت أنفاق وشوارع بنيت فوقها، هناك بيت واحد فقط ما زالت حجارته هناك يعود لـ"عبد الرحيم أبو حجلة" أقيم على أرض عائلة "أبو زر."
تلك القرية الصغيرة التي تبعت مدينة يافا العامرة ببيارات البرتقال إداريا ما زالت مجال حلم "أم أيمن”" بالعودة إلى بلدتها وقضاء أيامها الأخيرة تحت بيارات البرتقال وحقول القمح والشعير وينابيع المياه المتدفقة من نبع نهر العوجا (راس العين).
مخيم بلاطة الواقع شرق مدينة نابلس تلك الرقعة من الارض التي مساحتها (255) دونما ، مستأصل من الزمن ومحبوس في ذلك العام 1948 للذي لا نهاية له , حيث يقف الموت في كل زقة من أزقة المخيم ، ، هناك حيث يجلس الصغير بجانب جده او جدته المهجرة سائلة إياهم كيف كنّا زمان قبل الحرب والدمار؟
كل شيء شاخ في فلسطين غير ذكرى النكبة وكأنها وقعت الأمس فقط، سنون عجاف مضت وما زال اللاجئ الفلسطيني يبحث عن بصيص أمل في كل يوم مع شروق الشمس وغروبها للعودة إلى دياره .