هل لجأتم إلى البحث عن أساليب تقنية لحجْب تواجدكم "أونلاين" على "واتسآب" و"مسنجر"؟ كم من مرة لجأتم إلى إلغاء حسابكم على فايسبوك أو تويتر بهدف الحصول على فترة نقاهة؟ هل تستفزّكم بسرعة تعليقات الآخرين على شبكات التواصل؟ هذا الملف يهدف إلى شرح سيكولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي.
انطلقت الأبحاث حول التبعات النفسية والعقلية لاستخدام أدوات وشبكات التواصل الاجتماعي منذ بروز هذه الوسائل، باعتبارها تخترق الأنماط المعهودة للتواصل بين البشر وتؤثّر على سلوك المُستخدِم وتؤدّي بالحد الأدنى إلى تعزيز التوتّر والضغوطات النفسية بسبب طبيعتها الزمنية والمكانية ولارتباطها المباشر بتشكيل عاداتنا، بل وأنماط تفكيرنا.
لا بل أن الأبحاث النفسية المُختصّة بعلِم الحاسوب تعود إلى الأيام الأولى لظهور لغات البرمَجة مع ما تطلّبتها من استغراقٍ كاملٍ وتركيزٍ مضنٍ من قِبَل المُبرمجين، حتى باتت التقلّبات المزاجية سِمة عامة يجري تعميمها على هذه الشريحة من المهنيين.
لكن في العقد الأخير، بات المُختصّون يركّزون أكثر فأكثر على كل أداة ومنصّة بذاتها، نظراً للتطوّر السريع للخاصيات التي توفّرها هذه الأدوات والتنافُس الحاد في ما بينها لاكتساب العقول والقلوب.
ولم يعد خافياً أن كُبرى الشركات المالِكة لهذه الأدوات تخصّص مبالغ طائلة لأقسام الأبحاث المُختصّة بدراسة السلوك البشري وتطوير الذكاء الصناعي بما يتواءم وتفاعل البشر مع التكنولوجيا، فضلاً عن البيانات الضخمة التي يتم جمْعها كل لحظة جرّاء استخدام التطبيقات والمنصّات والمواقع والبرامج بهدف دراسة سلوك المُستخدمين.
ومع تحوّل معظم البشر إلى إقتناء الهاتف الجوّال واستخدامه بدلاً من الحاسوب في إنجاز مختلف الأعمال، بات هذا الإختراع، الذي يُطلَق عليه إسم "مُرسل الإشارات" في مختبرات غوغل، عاملاً مؤثراً في صحّتنا النفسية.
تشترك معظم منصّات التواصل الاجتماعي والأدوات المُرتبطة بها بخاصيّة "المُراسلة"، باعتبارها ثورة تقنية تختزل الزمان والمكان وتنقل "الرسالة" بشكلٍ آنيّ.
ويتركّز عمل معظم الشركات المالِكة لتطبيقات المُراسلة على إضفاء أكبر كمٍ ممكنٍ من التفاعُل الإفتراضي عليها، حتى باتت الرسومات التعبيرية جزءاً من ثقافتنا وحلّت لغة "الواتسآب" بديلاً عن اللغات المحلية.
فلماذا صارت هذه التطبيقات مادة جديدة للإدمان؟ وما هو السرّ الكامِن فيها؟
تحوَّل الهاتف من دور أداة للإتصال الصوتي إلى جهاز للتواصل بالنصّ والصورة بالدرجة الأولى، فضلاً عن أنه بات مختبراً لكافة أنواع التطبيقات المُرتبطة بسلوك واهتمامات و"هواجِس" البشر.
وعلى الرغم من أن تطبيقات كـ"الواتسآب" أو "مسنجر" قادرة على لعب الدور التقليدي للهاتف، إلا أن استخدامها الرئيس يكمُن في الوصول إلى الآخرين عبر نصوص سريعة ورسوم تعبيرية مُجرّدة من المشاعر الحقيقية في اللحظة التي يقرّر المُرسِل أنها مناسبة.
في الأصل، نحن كائنات اجتماعية تحب التواصل في ما بينها، ويثير فضولها الاستكشاف والتعبير عن أنفسها كما التعرّف على الآخر. للوهلة الأولى، يبدو أن تطبيقات التواصل تحقّق رغباتنا البدائية. ولكن الحقيقة النفسية تخفي ما هو أبعد من ذلك.
في جميع العادات التي نمارسها، هناك دائماً "نمط"Pattern مخفيّ يتكرّر دوماً ويجعل من هذه الممارسة عادة دائمة. هذا النمط عادة ما يكون محلّ اهتمام الشركات التي تصنع بضائع أو مُنتجات تستهدف عاداتنا الاستهلاكية، سواء كانت طعاماً أمْ ترفيهاً أو أيّ مجال يرتبط بسلوكنا اليومي وحاجاتنا الطبيعية.
تطبيقات الإتصال والمُراسلة تُحاكي تماماً النمَط الإستهلاكي؛ أي إنها تُجبرنا دوماً على العودة إليها كمُستخدمين.
هذه العملية تتألّف من "مثير" Trigger، حركة Action، مكافأة Reward واستثمار Investment.
الشرح المُختَصر لهذه العملية يفيد بأن "المثير" Trigger هو العامِل الذي يدفعنا لاتّخاذ إجراء معيّن. قد يكون هذا "المُثير" عاملاً خارجياً كما هي "الإشعارات" Notifications التي تصلنا لتنبيهنا بوجود رسالة جديدة، أم عامل داخلي اعتدنا عليه كلجوئنا إلى إرسال أمنيات الصباح لكل الأرقام المُسجّلة في هاتفنا.
مع الوقت، لا يعود هناك حاجة للعامل "المُثير" Trigger الخارجي، ويتقدّم العامل الداخلي بعد أن صار هذا الجزء من العملية تلقائياً ومألوفاً لدينا. وهكذا فنحن نُسارع إلى "واتسآب" أو "فايسبوك" أو "تويتر" حين نشعر بالوحدة. وحين نخشى فقدان اللحظة، نلتقط لها صورة وننشرها عبر "انستغرام".
لكل موقف نعيشه هناك تطبيق أو أداة جاهزة لتُحاكي مشاعرنا وانفعالاتنا وحاجاتنا. ولأن العملية باتت مألوفة وتسير بشكلٍ سريعٍ للغاية، فنحن لا نمتلك الوقت للتفكير ولو لحظة ما إذا كان اللجوء إلى هذه الأدوات للتعبير عن مشاعرنا أمر ضروري فعلاً، أو ما إذا كان الفعل الذي نلجأ إليه عند استخدام هذه الأدوات والمنصّات يروي فعلاً مشاعرنا وحاجاتنا وانفعالاتنا.
وهكذا تنشأ حال من "الإرتباط" مع هذه المُنتجات والتطبيقات!
في المرحلة الثانية من عملية "الإدمان" الإفتراضية هذه، نحن نتّخذ الخطوات دوماً للإستجابة للعامل "المؤثّر" Trigger الذي تحدّثنا عنه. يكفي فقط أن ننشر تعليقاً أو صورة أو نرسل أيّ محتوى عبر أدوات "التواصل" لنشعر بـ"المُكافأة" Reward؛ ذلك الشعور الخادِع بالسرور والسعادة لتعبيرنا عن أنفسنا.
اشتقت لشخصٍ آخر؟ أرسل له رسالة فورية وانتظر المُكافأة! مكافأة ردّه.
إن مُجرَّد اللجوء إلى استخدام أية أداة عبر النَقر عليها هو "الفعل" Action اللازِم في سياق تشكيل "النمط" الإستهلاكي لدينا. والعجيب فعلاً أن هذا "الفعل"، الذي يحوّلنا إلى "فئران تجارب" من دون أن ندري بفعل البيانات الضخمة التي تجمعها الشركات الكبرى العابرة للحدود عن سلوكنا في أدقّ تفاصيله، هذا "الفعل" هو نفسه يولّد لدينا إحساساً بـ"المُكافأة". يكفي أن نحصل على ردّ أو تعليق على ما أرسلنا لنشعر في داخلنا أن الهدف تحقّق. وهكذا كلما زادت أنواع المُكافآت وحجمها، زادت مرات "الفعل" لدينا.
يمكنكم الركون إلى "المؤثّرين" Influencers على "يوتيوب" أو "أنستغرام" أو المدوّنين المشهورين على "فايسبوك" أو "تويتر" لتلحظوا تماماً أن نشاطهم المُكثّف هو "أفعال" مرتبطة بشعورهم بـ"المُكافأة"، سواء كانت مالية أمْ عدداً أكبر من المُتابعين.
ومع إضافة "خدع" نفسية بسيطة، يمكن تحفيز "الفعل" لدينا واستثارة شعور "المُكافأة" أكثر. هلّا فكرتم بسبب انتشار "سناب شات" بين المراهقين في كل أنحاء العالم؟ الجواب بسيط: إن قدرة المُستخدِم على إرسال محتوى (صورة، فيديو أو نصّ) يختفي بعد وقت قصير "تدغدغ" الفضول والحشرية لدينا.
وللعِلم، فإن جميع المنصّات من "فايسبوك"، إلى "أنستغرام" و "يوتيوب" قريباً، تطوِّر بإستمرار خاصية "سناب شات" الرئيسية تحت مُسمّى "القصص" Stories. وهذه "القصص" هي إحدى الصيحات الجديدة في الوقت الراهن بين جميع المُستخدِمين.
ويتعدّى تأثير "القصص" وإنتشارها شبكات وأدوات التواصل الاجتماعي، بل هي باتت "نظرية" إعلامية لكبرى وسائل الإعلام عبر العالم على الرغم من سطحيّتها وضحالتها المعرفية وافتقارها إلى أحد أهم أهداف الرسالة الإعلامية؛ أعني "المعرفة".
وبعد مرورنا بمرحلة "المثير" فـ"الفعل" ثم "المُكافأة"، نقرّر أن نصرف المزيد من الوقت في تكرار "النمط"؛ أي إننا "نستثمر" المزيد من وقتنا وجهدنا ومالنا في الإستجابة للعوامل "المُثيرة" لـ"أفعالنا" كي نشعر مجدّداً بـ"المُكافأة".
ويتنوّع "الإستثمار" بحسب طبيعة الأداة أو المنصّة. فقد يكون على شكل "إضافة صديق"، أو الردّ على الردّ حتى ولو كانت الرسالة غير ضرورية، أو نشر المزيد من المحتوى بغضّ النظر عن قيمته الفعليه ما دام قد لقي تجاوباً من الأخرين وسبَّب لنا شعور "المُكافأة". وهكذا يجرّ المحتوى "المُبتذل" إلى المزيد من الإبتذال، وتزيد التعليقات الساخِرة من المحتوى الساخِر حتى يصبح نمطاً فكرياً يتحكّم بسلوكنا وردّات فعلنا ومشاعرنا.
الخطوات جميعها أعلاه تبني سلوكنا وأذواقنا وعاداتنا.
ويوماً بعد آخر، تتعمّق أقسام الأبحاث في المنصّات الاجتماعية على إبتكار أدوات وميزات تخاطب سِمات نفسية لدينا.
تُحَدِّث رابطة عُلماء النفس الأميركيين باستمرار تعريفات الأمراض والإضطرابات النفسية بما يتلاءم مع التطوّر البشري على مختلف الصُعد.
بعد إدمان الإنترنت، صار إدمان "الهواتف الذكيّة" اضطراباً مألوفاً تُخصَّص له مراكز تأهيل وعلاجات مُحدَّدة.
تختلف أعراض الاستخدام "الزائِد" للهواتف الذكية من اضطرابات السلوك، إلى أعراض جسدية، فاختلالات عقلية (كفُقدان التركيز والنسيان المَرَضي).
وضمن هذه الأعراض، تختلف درجة "الإصابة" والتأثّر لدى كل مُستخدِم تبعاً لعوامل عديدة، فتتراوح شدّتها من العدوانية الملحوظة وتقلّبات المزاج الحادّة إلى حدود الأمراض العقلية الخطيرة.
وقبل هذا كله، فإن لحظة استخدامنا لأدوات "التواصل" هي في الحقيقة لحظة إنسلاخ عن الواقع. وهذا بحد ذاته واحد من أكثر العوامل خطورة التي ينتج منها فقدان السيطرة على الذات، اتّكالية على الآخرين، مَلَل سريع واهتزاز الثقة بالنفس.
في حال "واتسآب"، تتحدّث بعض الدراسات النفسية عن "اضطراب الشخصية الحدّية" كنتيجة للاستخدام المُفرط لهذه الأداة.
وتشير أبحاث مؤسّسة "مايو كلينك" الشهيرة العامِلة في المجال الطبي إلى أن هذا النوع من الإضطراب يؤدّي إلى عدم استقرار في العلاقات، وتشوّه في الصورة الذاتية واندفاعاً في العواطف. كما أن المُصاب بهذا الإضطراب قد يعاني صعوبات في تحمّل الوحدة وحالات حادّة من العدوانية تجاه الآخرين، على الرغم من حاجاته إلى الشعور بالحب والعطف من الآخرين لمواجهة شعور الوحدة.
وغالباً ما يُطور المصابون بـ"إضطراب الشخصية الحدّية" خوفاً من النبذ، فيلجأ المُصاب إلى اتخاذ إجراءات "متطرّفة" بهدف تجنّب هذا الخوف، كما أنه يُبدّل أهدافه بسرعة ويولّد في ذاته شعوراً بالإضطهاد كما السلوك المُندفِع وردّات الفعل المُتهوّرة، وصولاً إلى السلوك "الإنتحاري".
ومن اللافت أن عوارض الوحدة والتقييم المُنخفض للذات تكاد تكون مشتركة في جميع الدراسات النفسية التي تناولت مُستخدمي الإنترنت عموماً.
"اضطراب الشخصية الحدّية" واحد من اضطرابات كثيرة تجري دراستها وملاحظتها لدى العلماء والباحثين في عِلم النفس، لكن الخوض في ذِكرها وشرح أعراضها لا يسعه مقال صحفي. ومن الأفضل دوماً توخّي الحَذَر عند تناول أيّ موضوع يرتبط بعِلم النفس في الإعلام كون مصطلحاته من الدقّة بمكان يصعب معها على عامة الناس إدراكها بالشكل الصحيح، بعيداً عن المفاهيم الشعبية.
والمشكلة أن الكثير من الناس لا يُميّزون أصلاً بين الحاجة إلى مُعالِج نفسي مُختصّ أو طبيب نفسي، فمعرفة الفارِق بين الإثنين هامة في المُعالجة الناجِعة. وتزداد الأمور سوءاً في المجتمعات النامية، حيث لا رقابة على الأطباء أو المُعالجين النفسيين، وحيث يسهل الحصول على الأدوية الخطرة لحالات يمكن علاجها أحياناً بعلاجٍ سلوكي معرفي لا بالعقاقير. كما أن بعض الحالات لا يمكن علاجها إلا بتدخّل كيميائي عبر الأدوية والعقاقير بعد أن انتقلت الحال إلى مرض عقلي بامتياز لن تنفع معها أية محاولات إقناع أو حديث أو ردع نفسي أو ديني أو قانوني.
مع تحوّل شبكات التواصل الاجتماعي إلى جزء رئيس في حياتنا، كما الإنترنت عموماً، فنحن مُعرّضون بشكلٍ أكبر للمُعاناة من اضطراباتٍ نفسيةٍ عديدة.
على أن الوقاية الأفضل لجميع الاضطرابات في حالتها الأوليّة تكمن في الرجوع إلى الواقع، وتعزيز التواصل الاجتماعي الحقيقي لا الإفتراضي، وممارسة رقابة ذاتية بالدرجة الأولى، مع إيلاء الأمور البسيطة في حياتنا الاهتمام اللازِم بدل البحث عن مشاعر خادِعة عبر أدوات إفتراضية.
ويمكن إيجاز بعض النصائح الهامة في مجال التعامل مع شبكات التواصل كالتالي: