الرئيسية / مقالات
محاربة العنف ضد النساء... الى الخلف دُر
تاريخ النشر: الأثنين 10/12/2018 15:34
محاربة العنف ضد النساء... الى الخلف دُر
محاربة العنف ضد النساء... الى الخلف دُر

من الذي يمتلك القوة الأخلاقية والقانونية وحتى الشرعية في "تربية" و"تعليم" و"تهذيب" سلوك الآخرين؟
هو سؤال قائم ومستمر على مر التاريخ والعصور، وهو أيضا سؤال عابر للحدود الجغرافية، الطبقية، الاثنية، الجنسية والعرقية وغيرها من اشكال التمايز والاختلاف بين التجمعات البشرية. في مجتمعنا الفلسطيني برزت ضرورة إعادة طرح هذا السؤال خلال الأيام الأخيرة، خلال الحملة السنوية لمناهضة العنف ضد النساء، التي تبدأ في الخامس والعشرين من تشرين الثاني من كل عام وتستمر لمدة ستة عشر يوماً.
في سياق هذه الحملة جاءت التصريحات المثيرة للجدل التي طرحها قاضي قضاة فلسطين خلال مقابلة تلفزيونية جرى بثها مطلع كانون الأول الحالي، وملخصها يدور حول "شرعنة" استخدام العنف ضد النساء في إطار التربية والتهذيب وتعديل اية سلوكيات غير "سوية" من قبلهن. بالطبع تبع هذه التصريحات سلسلة طويلة من المواقف التي عبرت بمجملها عن استنكار وشجب مثل هذا الطرح الذي يسحب البساط من تحت كل الهيئات والمؤسسات التي تعمل منذ سنوات طويلة في مناهضة التمييز والعنف ضد النساء من ناحية، ومن ناحية أخرى من كل المؤسسات التربوية التي قطعت شوطاً طويلاً في محاربة أي توجه لاستخدام العنف كوسيلة "تربوية"، او في سياق التنشئة والتعليم.
من الناحية الأولى، لا يوجد أي نظرية علمية حتى الآن، ما عدا الفكر العنصري، تثبت ان استخدام العنف، سواء ضد الأطفال او النساء او أي فئة ومجموعة أخرى، يساهم في عملية التربية والتعليم، وتغيير السلوكيات البشرية. بل العكس فان هناك الكثير من النظريات التي استندت الى أبحاث ودراسات مختلفة تشير الى ان استخدام العنف يؤدي في غالب الأحيان الى نتائج عكسية، فضلا عن انه يكرس القمع والاضطهاد وعلاقات السيطرة المبنية على القوة والقهر والاخضاع.
من الناحية الثانية لا يوجد أي اثبات علمي او أخلاقي يعطي الاحقية لفئة او شريحة على الفئات والشرائح الأخرى، سواء لقيادتها او تعليمها او تهذيب سلوكياتها. بالعكس من ذلك تماما فان التاريخ البشري اثبت ان كل الأفكار والحركات التي تبنت مثل هذه التوجهات، كانت تستند على نظريات "عنصرية" اعتمدت على فكرة سيادة "عنصر" بشري معين على العناصر الأخرى من الناحية البيولوجية والأخلاقية، وحاولت تعزيز نظريتها من خلال دراسات جزئية تدور في فلك محاولة اثبات "تميز" فئة او شريحة بشرية معينة وسموها من الناحية العقلية والجسدية على كل الفئات الأخرى. وبالتالي احقيتها في السيطرة عليهم وقيادتهم، وكان "الفكر النازي" هو أبرز النماذج البشرية المعروفة حتى الآن. وكلنا يعرف تاريخيا المآسي التي حلت على البشرية جراء ممارسات هذا الفكر خلال ثلاثينات واربعينات القرن الماضي.


من الناحية العملية ونتيجة للمعاناة البشرية الطويلة من نتائج وتداعيات مثل هذه الافكار والنظريات "الاستعلائية" الفوقية فقد توصلت البشرية الى اجماع عام لرفض فكرة التمييز بين البشر على اختلافهم، والاتفاق على ان الأصل والأساس السليم في البناء والفكر الإنساني يقوم على المساواة وعدم التمييز والتفريق على أي أساس كان. وتكرس ذلك من خلال سلسلة من المواثيق البشرية أشهرها الاعلان العالمي لحقوق الانسان، ثم العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وسلسلة طويلة من المواثيق الأخرى الخاصة بالفئات الاجتماعية المختلفة كالمعاقين والأطفال والمسنين وغيرها من الفئات الضعيفة، التي كانت معرضة أكثر من غيرها للتميز ضدها واضطهادها عبر التاريخ. وبالطبع كان للنساء نصيب واسع من ذلك، وخاصة في اتفاقية مكافحة كافة اشكال التمييز ضد المرأة "سيداو"، حيث كانت النساء أكثر هذه الفئات تعرضا للتمييز والاضطهاد تاريخياً.
لم تكن اتفاقية "سيداو" مجرد نصوص حول حقوق النساء في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة، والاقرار ان الأصل في العلاقة بين الرجال والنساء هو المساواة، بل كانت الاتفاقية بمثابة سحب "للشرعية" الأخلاقية التي أعطت للذكور حقوق القمع والسيطرة على النساء على مدار سنوات التاريخ الطويلة.
فلسطين لم تكن بمعزل عن كل هذا التطورات، بل ربما كانت سباقة الى ذلك. فالواقع العملي لحياة الشعب الفلسطيني وكفاحه الوطني المتواصل من اجل تحرره اثبت طوال أكثر من قرن من الزمن ان لا تمييز بين الرجال والنساء، او الذكور والاناث في حركة النضال. وكان الرجال والنساء يخضون معاً معارك وحروب النضال منذ مطلع القرن العشرين، حيث النضال ضد الانتداب البريطاني مروراً بمقاومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وصولاً الى المساهمة الفاعلة في الثورة الفلسطينية المعاصرة منتصف ستينات القرن الماضي، وما بينهما وخلالهما من نضال متعدد الاشكال والاوجه والساحات.
جاءت وثيقة استقلال فلسطين التي أعلنها المجلس الوطني الفلسطيني، وهو اعلى جسم تمثيلي في حياة الشعب الفلسطيني، في دورته التاسعة عشر في الجزائر منتصف تشرين ثاني 1988 لتعبر عن هذه الحقيقة، ولتكرس معنوياً واخلاقياً واقع المشاركة الفاعلة للنساء، والمساواة في تحمل الأعباء في مجالات الحياة والنضال كافة، ونصت تلك الوثيقة التاريخية على ان "دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا، فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، وتصان فيها معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الإنسانية، في ظل نظام ديمقراطي برلماني، يقوم على أساس حرية الرأي وحرية تكوين الأحزاب ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية واحترام الأقلية قرارات الأغلبية، وعلى العدل الاجتماعي والمساواة وعدم التمييز في الحقوق العامة على أساس العرق أو الدين أو اللون أو بين المرأة والرجل، في ظل دستور يؤمن سيادة القانون والقضاء المستقل وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي والحضاري في التسامح والتعايش السمح بين الأديان عبر القرون"
بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وانتخاب اول مجلس تشريعي، ربما في تاريخ الشعب الفلسطيني، عام 1996 جاء القانون الأساسي الفلسطيني، الدستور المؤقت لدولة فلسطين، ليؤكد في المادة (9) على ان "الفلسطينيون أمام القانون والقضاء سواء لا تمييز بينهم بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو الرأي السياسي أو الاعاقة." والمادة (10) من نفس القانون التي تنص على "1-حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ملزمة وواجبة الاحترام. 2- تعمل السلطة الوطنية الفلسطينية دون إبطاء على الانضمام إلى الإعلانات والمواثيق الإقليمية والدولية التي تحمي حقوق الإنسان."
تبع ذلك سلسلة طويلة من القوانين والأنظمة والإجراءات التي تكرس السير في ذات الاتجاه الذي يعزز المساواة، ويحارب كل مظاهر واشكال التمييز. فتأسست وزارة شؤون المرأة لتحقيق عدة اهداف في ذات السياق كان احداها "الحد من العنف ضد النساء". وتم بناء استراتيجية على المستوى الوطني لمناهضة هذا العنف بمشاركة طيف واسع من المؤسسات الرسمية والشعبية الفلسطينية. وانخرطت العديد من المؤسسات الحكومية في برامج ومشاريع لمكافحة العنف. وتأسست وحدات للمرأة والنوع الاجتماعي في الوزرات والأجهزة الحكومية المختلفة كالشرطة والنيابة العامة... وغيرها.

وعلى المستوى القانوني شرعت العديد من القوانين التي تكرس المساواة وتنبذ كل اشكال العنف والتمييز، فقانون الانتخابات مثلا عزز المساواة في المشاركة السياسية بين الرجال والنساء، انتخاباً وترشحاً، بل تبنى "الكوتا" النسوية كتدبير يُسرع تحقيق هذا الهدف. وأصدر الرئيس الفلسطيني عدة مراسم رئاسية بتعديل بعض النصوص القانونية في القوانين السارية للتخفيف من حدة وسحب البساط من تحت مرتكبي جرائم العنف ضد النساء.
في نيسان عام 2014 انضمت فلسطين الى سلسلة من المعاهدات والمواثيق الدولية ومن بينها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة "سيداو" دون اية تحفظات على موادها وبنودها. وهذا يعني التزام الارادة السياسية العليا بكامل بنود ونصوص هذه الاتفاقيات والمواثيق في مجال المساواة وعدم التمييز بين المرأة والرجل، والالتزام باتخاذ كافة الاجراءات والتدابير التي تحظر التمييز وتعمل على مكافحته. وتعترف دولة فلسطين بإعلان الامم المتحدة الخاص بالقضاء على العنف ضد المرأة وتحتفل، وتشارك في احتفالات الستة عشر يوما لمناهضة العنف ضد المرأة.
في العام 2017 قدمت فلسطين تقريرها الأول الى لجنة الأمم المتحدة المعنية بمراقبة التزام الدول بتطبيق اتفاقية "سيداو". وعدد التقرير سلسلة طويلة من "الإنجازات" التي تحققت على صعيد تعزيز المساواة، ومحاربة العنف ضد النساء. ورغم ذلك أشار التقرير الى جملة من التحديات التي لا تزال تقف عائقا في طريق محاربة التمييز والعنف واهمها استمرار الاحتلال الإسرائيلي وسياسة العنف التي ينتهجها، واستمرار الانقسام السياسي اضافة الى العادات والتقاليد والثقافة الاجتماعية الموروثة.
على ارض الواقع، فانه رغم كل ذلك، فان العنف لا يزال قائماً بأشكال مختلفة ومتعددة فقد اشارت تقارير الرصد النسوية مثلا الى انه منذ بداية العام 2018 وحتى نهاية تشرين ثاني من ذات العام قُتِلت (22) امرأة وفتاة فلسطينية، وهذا يرفع عدد النساء المغدورات منذ عام 2015 كمثال الى أكثر من (80) امرأة. هذا عدا عن اشكال العنف الأخرى الجسدية والجنسية واللفظية والنفسية... وغيرها من اشكال العنف، التي رصدتها مراكز الرصد والبحث، وتعاني منها نساء فلسطين، سواء من قبل الاحتلال الإسرائيلي او بحكم العادات والتقاليد الموروثة.
اذن من اين يأتي العنف؟!
ليس المقصود هو السؤال عن مصدر العنف بالشكل الملموس، ذلك ان الإجابة على هذا السؤال واضحة ومحددة لدى كل جهات الاختصاص في الهيئات والمؤسسات سواء النسوية او الحقوقية، او حتى الحكومية المعنية. بل التساؤل يذهب بعيدا الى العمق، باحثاً عن ذلك المصدر الذي يعطي لهذا العنف قوة "أخلاقية" ويكرس "شرعيته" لدى فئات وشرائح متعددة، وبالتالي ديمومته واستمراريته.
بعد كل هذا يظهر جلياً ان منبع تلك القوة نابع من مصدرين أساسيين يعيدان انتاج العنف ضد النساء، المصدر الأول هو تلك القوة التي تبذل قصارى جهدها في لتعزيز العادات والتقاليد المجتمعية الموروثة في هذا المجال والتي تكرس دونية النساء، وتبرر التمييز والعنف ضدهن من خلال تجميل هذه التقاليد، عوضا عن نقضها ومحاربتها، من خلال محاولات إلباسها ثوب "شرعي ديني". بحيث تلقى صدى إيجابي مقبول لدى فئات واسعة من المجتمع الفلسطيني، وهذا يتعاكس في اعتقادي مع مضمون وتوجهات التعاليم الدينية السمحة لكافة الأديان السماوية التي نصت صراحة وضمناً على احترام الانسان، ذكوراً واناثاً، صغاراً وكباراً، وصون كرامتهم ومنع الاعتداء على حقوقهم المختلفة. ذلك التوجه بالذات يشكل مصدر الخطر الأول، ويقف دائما بالمرصاد لأية جهود او إنجازات تتحقق في محاربة العنف، ويقلب الطاولة ويخلط الأوراق من جديد "كلما دق الكوز بالجرة" كما يقول المثل الشعبي.
اما المصدر الثاني الذي لا يقل أهمية فهو دور الاعلام. وهناك قضية فاصلة في هذا الامر فالإعلام اما ان يكون منحازاً الى المواقف والتوجهات التقليدية، او الى المواقف والتوجهات العصرية التقدمية، التي تأخذ بعين الاعتبار تطورات الحياة والواقع بروح إيجابية تهدف الى نقد الواقع السلبي وكشف عيوبه، وتطمح الى بناء مستقبل أكثر إيجابية وتطوراً. وبهذا المعنى فانه لا يمكن لأي وسيلة اعلام ان تدعي "الحياد" بقولها نها انما تنشر "وجهات نظر" مختلفة حيال موضوع العنف ضد النساء. وعلى ضوء كل ما تطرقنا اليه أعلاه فان الأمور لم تعد عبارة عن وجهات نظر فقط، وانما تصبح مسألة موقف، يتوجب اتخاذ قرار واضح بأي اتجاه يكون، وتحمل تبعات وواجبات ذلك الموقف.
لكل ما سبق فإنني اعتقد ان تلك التصريحات التي صدرت عن شخصية هامة في هرم القرار الرسمي الفلسطيني، السياسي والديني يمكن ان تساهم في خلط الأوراق من جديد، ويمكن لها ان تسيء الى صورة النظام السياسي الفلسطيني ووسائل الاعلام الفلسطينية، فضلا عن الاضرار بكل الجهود التي بذلت حتى الآن من قبل قطاع واسع من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية الفلسطينية لمحاربة العنف ضد النساء، وتطوير وتشجيع التوجهات المجتمعية التي تعزز المساواة في مجالات الحياة كافة.
انتهى
نبيل دويكات
رام الله- 9 كانون اول 2018
 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017