نابلس – خاص قدس الإخبارية: "إذا استشهدت.. فتأكدي أني أخذت بثأري وثأر إبراهيم"، فرحا يلوح أحمد بيده لوالدته، بعد أن تلقى مكالمة من جنين نقلت له بشرى نجاح العملية، فعبواته الناسفة ما عادت تفخخ الطرق المؤدية إلى مخيم بلاطة فقط، فها هي تصل إلى المدن الأخرى أيضا، وتقطع أرجل ضباط الاحتلال التي تجرأت على أن تدوس هذه الأرض.
بعد منتصف الليل، وبينما منازل مخيم بلاطة تطفئ أنوارها الواحد تلو الآخر، والمارة يخلون الأزقة تاركينها لمن يحميها، يتلفت أحمد حوله متأكدا أنه وحيد في المكان، قبل أن يرفع غطاء حفرة الامتصاص أمام مسجد عباد الرحمن، حيث خبأ عبوته الناسفة، سحب أسلاكها الرفيعة الطويلة فوق المسجد وصولا إلى سطح أحد المحال الواقعة خلف المسجد، وتركها والبطارية للوقت المناسب.
في اليوم التالي، وبينما أحمد يتجول في أزقة المخيم، ينتشر خبر اقتحام الاحتلال، فيتوجه مسرعا نحو الأسلاك التي ما زالت تنتظر من يشبكها ببعضها، يحضرها سريعا، ويجلس مترقبا المكان، وما أن أقبل الجيب، وقبل أن تلامس الأسلاك بعضها، همس أحمد، "بسم الله.. الله أكبر"، وما أن طار الجيب في السماء، انسحب أحمد قافزا من سطح منزل إلى آخر.
الطرق إلى مخيم بلاطة باتت مفخخة بعبوات أحمد سناقرة الناسفة التي أعلنت أرض المخيم منطقة حرام، من يتجرأ على اقتحامها من الاحتلال ستقطع قدميه، لتكون العمليتين التي نفذت قرب مسجد عباد الرحمن، والأخرى التي نفذت في منطقة الحسبة، من أقوى عملياته، تضحك الوالدة متفاخرة بنجلها، "كل عملياته نتج عنها تقطيع أرجل الجنود والضباط".
آليات الاحتلال لم تعد تستطيع اقتحام مخيم بلاطة دون جرافة تتقدمها تقوم بجرف كل ما في الطريق، تخوفا من عبوات سناقرة المتفجرة، "صعدت على سطح المنزل فرأيت قنابل دخانية فهاتفت أحمد مباشرة، فرد وهو يصرخ: الله أكبر لقد حرقنا الجرافة"، تروي الوالدة لـ "قدس الإخبارية" عن إحدى الليالي التي كان أحمد بطلها، معلنا أن حرق الجرافة كان انتقاما للشهيد حمودة شتيوي.
أهلا بأحمد
12 أذار 1987، ألم المخاض يفاجئ جميلة منبأ باقتراب ولادة طفلها الرابع، تنادي العائلة الأب الذي ترك عمله مبكرا وعاد ليستقبل ابنه الجديد، ويوزع حلوى قدومه على المخيم، فسعادة خاصة تجتاح عائلة سناقرة لقدوم الفرد الجديد، الذي ستسميه أحمد.. أحمد الذي ستوزع عائلته الحلوى مرات ومرات احتفالا بانتزاعه الحياة.
قبل أن يكمل عامه الثالث، وخلال حظر التجوال الذي تواصل قوات الاحتلال فرضه على مخيم بلاطة الذي يلبي يوميا نداء الانتفاضة الأولى، يسقط أحمد عن الكنبة متلقيا ضربة على رأسه، يخرج الوالدان يركضان في أزقة مخيم بلاطة محاولان انقاذ طفلهم الذي بدأت حالته الصحية بالتراجع، "وصلنا به إلى مشفى الاتحاد في نابلس حيث تم تحويله إلى مشفى رام الله، ثم إلى مشفى المقاصد في القدس" تروي جميلة لـ "قدس الإخبارية"، والتي كان قلبها يرجف خوفا من فقدان طفلها، دمعها يسيل بلا توقف، ليطمئنها أحد الممرضين بكلمات ستبقى تتردد في ذهنها، "أحمد سيتعافى ويعيش ويكبر.. وستفرحين به".
في عامه العاشر، بدأت جميلة تلاحظ أن طفلها مختلف عن أقرانه، مميز بذكائه، وبدأت تقنعه أن يضع حلم الهندسة بين عينيه ويسعى له، فهي لا تراه إلا مهندسا، "كان يفكك الأجهزة الكهربائية في المنزل ويصلحها ويعيدها جديدة كما كانت، كنت أقول له يجب أن تصبح مهندسا، وكان دائما يهز رأسه مبتسما". بدأ أحمد باتباع حدسه الذي ينبئه باقتحام قوات الاحتلال، ليتسلل من المدرسة ويشارك بإلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة، تعلق والدته، "حينها لم تكن الهواتف النقالة منتشرة، حتى الآن لا أعلم كيف كانت تصل أخبار الاقتحام لأحمد الذي كان يترك المدرسة ويعود مسرعا إلى المخيم يأخذ زجاجاته ويلقيها على جيبات الاحتلال".
الحجارة والزجاجات لن تعد بعد الآن سلاح الفتى أحمد سناقرة (16عاما) الذي بدأ بصناعة وتطوير العبوات المتفجرة، لتنفجر الأولى بجيب عسكري لجيش الاحتلال.
يسحب أحد كتبه ويتوجه مسرعا إلى باب المنزل، "سأنام الليلة عند صديقي، سندرس الامتحان معا"، تغضب الوالدة التي تشعر أن أحمد يخفي شيئا عنها، ليهمس لحافظة أسراره، "فجرنا عبوة بجيب، ومن كان معي تم اعتقالهم.. لن أسمح لهم باعتقالي، أنا لا أتحمل البقاء في السجن 12 سنة، أنا أريد الاستشهاد".
الاحتلال يلاحق فتى العبوات
منذ عام 2004 بدأ الاحتلال بمطاردة وملاحقة أحمد سناقرة الذي أعلن بعبواته تحرر مخيم بلاطة الواقع على الأطراف الشرقية لمدينة نابلس.
الساعة الثانية يوم الثالث من تشرين ثاني 2006، وبينما ينقل أحمد مركبة فخخها بأطنان من المتفجرات، بدأت قوات الاحتلال الخاصة التي كمنت في إحدى المباني القريبة بإطلاق النار على أحمد الذي استطاع الخروج من المركبة قبل انفجارها، ليصاب بست رصاصات، واستيقظ المخيم على صراخ "السنقور تصاوب.. السنقور تصاوب".
لم تكن قوات الاحتلال تتجرأ على الاقتراب من جسد أحمد الملقب بـ"السنقور"، وخاصة أنه عمم أنه يرتدي طيلة الوقت حزامًا متفجرًا، تستذكر الوالدة خلال حديثها لـ"قدس الإخبارية"، "أهالي المخيم استطاعوا سحب أحمد، وتدخل المقاومون في المخيم وبدأوا بالاشتباك مع قوات الاحتلال موفرين الحماية للأهالي ليتمكنوا من إخلاء أحمد الذي لم يخرج من المخيم إلا بعد ثلاث ساعات، إذ واصل الاحتلال حصار المخيم لمنعنا من إخراجه".
وقفت جميلة وأبنائها على سطح المنزل يراقبون ما يدور، عاجزة عن الوصول للمكان، لينقل أحد أهالي المخيم لإبراهيم (16عاما)، "أخوك استشهد".. جن جنونه وخرج باحثا عن شقيقه وهو يصرخ بداخله، "لا تتركني الآن"، وما أن اقترب من المكان حتى تلقى رصاصة واحدة، تقول الوالدة، "سمعت صوت إبراهيم وهو يتوجع، لحقت به ورأيت نافورة الدم تخرج من قدمه.. نسيت أحمد ورافقت إبراهيم إلى مشفى رافيديا وما أن أعلن استشهاد إبراهيم، توجهت إلى مشفى الاتحاد حيث يخضع أحمد الذي كان موصول بأجهزة الإنعاش.. ولم أجد سوى قدمه لأقبله عليها".
نقل من المشفى لإحدى الشقق السكنية خوفا من اعتقاله، واستيقظ في اليوم الثالث ولم يجد والدته فوق رأسه كما اعتاد أن يلقاها دائما كلما أصيب، وبعد إصراره عن معرفة سبب اختفاء والدته، نقل له نبأ استشهاد شقيقه إبراهيم. محاولا استجماع ما تبقى به من قوة، هاتف أحمد والدته التي ردت عليه، "حبيبي يما.. إن شاء الله اضل عايش، واضل تعمل عبوات وتفجرها باليهود.. إبراهيم استشهد والله يرحمه".
بعد أسبوع جاء أحمد إلى المنزل لرؤية والدته، ثم زار قبر شقيقه الشهيد حيث وقف متوعدا له بالانتقام، "في تلك الليلة اقتحم جيش الاحتلال المنزل، أخرجونا كلنا وكانوا مترددين من الدخول معتقدين أن أحمد في الداخل، وما أن تأكدوا أنه ليس هنا انسحبوا".
أحمد سناقرة.. طائر الفينيق
بعد أن تشافى أحمد من الرصاصات الست التي أصابته، أصيب مرة أخرى خلال اشتباك مسلح مع الاحتلال، برصاصة هتكت أمعائه وتركت جرحا سيبقى مفتوحا ستة شهور كما أبلغه الأطباء، تقول الوالدة "كان يكرر أحمد كيف سيتحمل البقاء بالسرير كل هذه الفترة، إلا أنه وبعد شهرين قرر الأطباء إعادة أمعائه مكانها وإغلاق الجرح، إذ أنه تشافى بسرعة".
وتذكر أيضا أنه في إحدى الاشتباكات التي دارت بين أحمد وجيش الاحتلال، أصيب أحمد بخمس رصاصات في يديه وصدره، انسحب إثرها من المكان تاركا خلفه بندقيته التي بلغ ثمنها 10 آلاف دينار أردني، وقد ساعدته شقيقته بشرائها بعد أن باعت جزءا من ذهبها، "حزن أحمد كثيرا على فقدانه بارودته، كان يحبها كثيراً وعانى حتى حصل عليها.. نحن متأكدين أن الجنود لم يأخذوها بل العملاء".
في إحدى المرات، وخلال إلقاء أحمد القنابل المتفجرة اتجاه قوة لجيش الاحتلال اقتحمت شارع القدس في مدينة نابلس، تلقى إصابة في يده أدت إلى تقطيع ثلاث أصابع من يديه، والتي دفنت قبل أن يلحق بها، وتروي والدته أنه اضطر تفجير عبوة بجيش الاحتلال وهو ما زال قريبا منها ما أدى لإصابته بشظايا عدة قطعت كعب قدمه، مشيرة إلى أن عبوة أخرى انفجرت في أحمد خلال تصنيعه لها، ما أدى لإصابته بحروق في كل أنحاء جسده.
جميلة وبعد كل إصابة كان يتعرض لها ابنها، كانت تبقى تتوسل إلى الله أن يشافيه ليبقى قادراً على الهرب من الاحتلال، "جننهم، وأنا أفتخر به كثيرا وأتمنى يكون كل الشباب مثله.. كل عمله كان صائبا وخاصة أنه وهبه خالصاً لله وللوطن".
حصار تحت الأنقاض
هذه المرة الأولى التي علمت فيها جميلة أين سينام ابنها أحمد الذي حضر ليشرب برفقتها ورفقة ضيوفها الشاي، فطيلة سنوات مطاردته لم تكن تعلم باختبائه وأماكن تواجده، "أحمد كان يشعر بالشيء قبل وقوعه، أثناء شربه الشاي معنا قال لصديقه المطارد الذي يرافقه: إذا حاصرونا لن أسلم نفسي.. سأنزل تحت الأرض ولن أسلم نفسي أبداً.. كانت هذه المرة الأولى التي أعلم فيها أين سينام أحمد".
الساعة الثالثة من فجر 19 أيار 2006، استيقظت العائلة على اتصالات حملت لها نبأ محاصرة ابنها داخل المقاطعة التي أخلي كل من فيها ونقلوا إلى المبنى المجاور، لتتوجه جميلة وعائلتها إلى المكان، وما أن وصلوا حتى نقل لهم خبر استشهاد ثلاثة شبان وهم: محمود الخطيب زوج آيات شقيقه أحمد سناقرة، ومحمد ابو ليل، وحسام البدرساوي، واحتجاز جثامينهم.
تقول جميلة لـ "قدس الإخبارية"، "ثلاثة أيام وهم يهدمون المقاطعة المحاصر ابني داخلها، وأنا أشعر أنهم يهدمون قلبي، وطيلة هذه الأيام وأنا وعائلتي لا نأكل ولا نشرب.. طالبت من الشباب المتجمهرين مواصلة التكبير حتى يمدوا أحمد بالمعنويات ليصمد بحصاره".
إلا أن وضع جميلة الصحي تردى في اليوم الثالث وما عادت قادرة على الخروج، لتتلقى اتصالات من ضباط الاحتلال طالبوها بالحضور والمناداة على أحمد كوسيلة للضغط عليه، وهو ما رفضته والعائلة، فردت جميلة، "أنا كلمت أحمد وهو غادر المقاطعة.. أحضر كل طيارات ودبابات إسرائيل واهدم كما تريد.. أحمد ليس بالمقاطعة"، لتنسحب قوات الاحتلال مساء اليوم الثالث وقد فشلت بمهمتها وتكبدت خسائر بملايين الشواقل.
توافدت الناس إلى المقاطعة بحثاً عن أحمد سناقرة الذي كانت كل الأصوات تنادي عليه، وعندما ميز صوت خاله، لبى النداء ورفع يديه المصابه والملفوفة بالشاش الأبيض، "كان وجهه بلا لون، أحضروه لي على حمالة، المئات حضروا إلى المنزل، الكل وزع الكنافة والشوكلاتا والحلوى بنجاة أحمد الذي هز إسرائيل"، تقول والدته لـ "قدس الإخبارية".
"قاومت لأقهر الاحتلال" رد عن سبب صموده تحت الأنقاض طيلة الأيام الثلاثة الماضية، "كنت أكل ورق الشجر الذي كان يسقط نحوي، تبولت في حذائي وشربته من شدة العطش.. كانت تجربة لي وصمدت، وإن شاء الله لن يمسكوني إلا شهيد"، قال أحمد لوالدته.
منح سناقرة خيارين أن يسلم نفسه للسلطة الفلسطينية أو يتم إبعاده إلى الخارج، وكان كلاهما مرفوضا، فالهرب آخر خيارته، والمواجهة المباشرة هي اختياره، وكان يقول "من المستحيل أن أنام على فراش الجواسيس في سجن الجنيد"، ليبقى المقاوم الوحيد المطارد في مخيم بلاطة، بينما استشهد الآخرون وسلم من تبقى، تقول والدته، "خلال اجتياح المدينة، كل المطاردين أخلوا المخيم إلا أحمد بقي يواجههم، كان يطلق النار ويتقدم خلافا للمقاومين الذين كانوا يطلقون النار وينسحبون.. لم يكن يعرف الخوف أو التراجع والانسحاب".
وتضيف، "يا ريت لو أحمد ضل عايش، وضل يجنن اليهود، يا ريت لو خلفت مثل أحمد عشرة.. الذي يصبرني على فراقه سمعته الطيبة، وبطولاته التي كنت أراها في عيني، صحيح كانت أيام متعبة.. ولكني كل يوم أدعو أن تعود تلك الأيام ".
الليلة الأخيرة
خططت جميلة أن تزوج أحمد في شهر شباط المقبل دون إٍقامة أي حفل، إلا أن أحمد رد عليها، "لن تلحقي فعل ذلك، سأكون قد استشهدت"، فتح يديه وردد، "يا رب، يا رب، يا رب... استشهد هذه الليلة بعد أن اشتبك مع الجيش"، ودعا أحمد، "يا الله أتصاوب في كل جسمي، ولكن وجهي لا يصيبه شيء.. حتى يبقى وجهي حلو تودعيني وأصحابه منه".
الساعة الثانية فجر 18 كانون ثاني2008، استيقظت جميلة فزعة على صوت رصاصة واحدة أطلقت في الهواء، هاتفت أحمد فورا، فطمئنها وأخبرها أنه ما زال يجوب في أزقة المخيم وسينام بعد قليل، "لم أنم، توضأت وبدأت أصلي وأدعو الله أن يحمي أحمد.. لم أصلي وأدعو هكذا من قبل، كان قلبي يرتجف عليه".
تلك الرصاصة كان متعارف عليها أنها إشارة بين العملاء وقوات الاحتلال التي لاحقت أحمد إلى حيث كان ينوي أن يبيت ليلته، لتطلق صوبه قذيفة قطعت قدمه، ثم انهالت عليه بزخات الرصاص الحي.
تسلل خبر محاصرة أحمد – الذي لم يتم عامه الـ 21 - واشتباكه مع قوات الاحتلال، ركضت جميلة إلى سطح المنزل، وبدأت بالتكبير بأعلى صوتها عسى أن يسمع أحمد صوتها.
"أريد أن أنام نوما أبديا" قال أحمد لوالدته خلال زيارة خاطفة في ليلة استشهاده، وأوصاها ألا تضعه في ثلاجة الموتى وأن تغطيه بالغطاء الذي أحضرته له من العمرة، وأن تشغل له أغنية "بدري يا رفيق العمر"، "طول عمري وأنا مطارد وسقعان.. الذين كانوا يخبؤونني لم تكن لديهم أغطية كافية.. كنت دائما أنام وأنا أشعر بالبرد"، قال أحمد لوالدته.
على باب ثلاجة الموتى في المشفى، وقفت جميلة مشرعة يديها الاثنتين، رافضة أن يوضع ابنها بداخلها كما أوصى تماما، لتجبر الأطباء وضعه على السرير حيث بقيت تدور حوله وتقبله في كل أنحاء جسده، ثم رافقته في مركبة الإسعاف، وكيفما مال أحمد رأسه مال رأسها، وواصلت همسها له، "مبروك عليك شهادتك يما، الله يهنيك يما ويسعدك"، تقول جميلة، "كلما دعوت له كان يفتح عينه".
https://www.facebook.com/QudsN/videos/1894488640628028/?t=0