كتبت: تسنيم ياسين
للمرة الرابعة في تاريخ تجوال أصداء، توجه الفريق إلى وادي القلط الممتد بين القدس وأريحا، في محاولة لتثبيت الوجود الفلسطيني في أرض أول ما يصادفك فيها وجوه شقراء وسوداء تستهجن وجودك أنت الفلسطيني السيئ.
بدأ المسير بالمجموعة كاملة متكاملة بأعضائها الخمسين، لكن خطوةً بعد خطوةٍ انقسم الفريق إلى أجزاء، فالسابقون السابقون، أولئك الذين آثروا المشي السريع على الوقوف عند كل مشهدٍ لشجرة أو صخور معلقة هنا وهناك، ثم أصحاب السرعة المتوسطة من حاملي الكاميرات وغيرهم، وأخيراً المتأخرون المتمهلون.
في البداية كان يمكن لنا أن نقف لحظات نتأمل روعة المناظر الخلابة التي لم نكن نتصور أنها هنا في بلادنا، كان يمكن لنا أن نقف لالتقاط الصور ومحاولة استنشاق رائحة الطبيعة الخالصة.
ولكن شيئاً فشيئاً وربما مع أول تعثر لنا في الماء بدأنا لا نلحظ إلا أقدامنا وأين نضعها، نحاول أن نزيل الأتربة التي علقت في ملابسنا فنحن ما زلنا في البداية وأمامنا طريق طويلة.
ولكنها كانت عبثاً، فلا نلبث نستمتع بقليل من النظافة حتى نعاود السير في المياه المليئة بالطحالب والأتربة والكائنات الحية ونتسخ من جديد، وهكذا حتى فقدنا الأمل وصار السير هدفنا فقط.
أن تمشي دون أن تتعثر معجزة ربما لم تمر على أحد بعد، فالصخور مبللة كما الأحذية ومليئة بالطحالب، لذلك فإن من لم يتعثر منا ويقع في البرك ويغص في الماء تعثر بصخرة أو حجر أو غصن شجرة، أو انقطع نفسه على سفح الجبل الصخري.
أثناء سيرنا مررنا بعدد من المجموعات التي كانت تسير في الخط المعاكس لسيرنا، كنا نحاول أن نستطلع منهم حال الطريق القادمة وسهولتها، ولكن لم يكن هناك ما يبشر بالخير فوجوههم وحدها كانت تتكلم عن المعاناة التي عاشوها، وهم ما أن كانوا يروننا ويروا ما حلّ بنا يدركون أن القادم أعظم.
كل شيء مر على خير ويسر حتى وصلنا إلى سلم الصخر، تلك القطع الحديدية الرفيعة التي كان علينا أن ننتقل بها من صخور عالية إلى الأسفل، هي قطعة حديدية واحدة عليك أن تثبت فيها يديك كي تستطيع أن تثبت قدميك على قطعة أخرى في الاتجاه العمودي ثم يكون عليك في المرحلة الأصعب أن تقلب نفسك، هنا علق معظمنا ووقف يتأمل ما تحته... هل سيكون مصيري السقوط؟
تجربة السلم استحقت من كل الفريق أن يجلس يسترد أنفاسه المتقطعة ويسكت جوعه الصارخ ويتدارك ما فقده أثناء المشي من أشخاص تأخروا وممتلكات سقطت ولم تعد، ونحن أصحابَ التجربة الأولى ظننّا أن الأمر قد انتهت صعوبته فلا شيء سيكون أصعب من النزول على سلم الكابوس ذاك، أما المجربون فكانوا يتداولون جملة واحدة متفق عليها "انتظروا هناك الدرج الطويل وطريق الصعود الأخير".
كنا عدة فتيات انفصلنا لنصل إلى الدرج بسرعة أكبر من سرعة بقية أعضاء الفريق، وحينما وصلنا إلى الدرج بدأت إحدانا في محاولة عدّ الدرجات قبل أن تدرك أنها حركة مؤدية للهلاك قهراً بلا شك، وخصوصاً مع جفاف حلوقنا بعد نفاد الماء الذي كنا نحمله، وهكذا انتهى الدرج لتبدأ طريق الصعود الأخير.
هناك تتجلى أشد أفكار الإنسان تخفياً وراء تفاصيل الحياة اليومية المزدحمة في الرؤوس، هناك تمشي وتمشي، تحاول ألا تنظر أمامك وأن تغرق نفسك في التفكير ثم حينما تظن أنك قاربت الوصول، ترفع رأسك لتفاجأ بأن كل لفائف الطريق هي نفسها، لا شيء سوى التراب والجبال الممتدة.
راودتنا أفكار بأن نجلس وسط الطريق ونصرخ يائسات من محاولة الوصول إلى الحافلة التي علمنا أنها تقف في نهاية الطريق، لكن صاحبة تجربة سابقة دلتنا أخيراً على أننا ممكن أن نتفادى الالتفاتة الأخيرة بالمرور من أرض ترابية تختصر علينا.
وصلنا، وبدون اتفاق مسبق كانت صرخة الحياة هي ردة الفعل الأولى لمعظم أعضاء الفريق بمجرد وضع أول قدم له في الحافلة.