بقلم: ماجد أبو عرب
حرك شقيقي محمود مفتاح مركبته الخاصة عند السابعة صباحا وتوجهت برفقته إلى مدينة القسام جنين التاريخ ،وذلك من اجل حضور محاكمة نجله محمد المعتقل منذ اسبوعين اثر الحملة الأخيرة التي استهدفت مخيم بلاطه ،والتي أطلق عليها المحتلون عملية (تنظيف الاسطبلات )التي استهدفوا فيها رجال المقاومة من محررين ومناضلين الطريق من نابلس إلى جنين يملأها بساط أخضر اسمه مرج بن عامر ، عامر بالخضرة والجمال ويسكنه هدوء في غاية الروعة ويتوسطه عند بعض المنعطفات منازل حديثة يعلوها قليل من القرميد الذي يزين مداخلها وسطوحها،وبعد ما يزيد عن ساعة وصلنا إلى مشارف قرية رمانه التي لاتبتعد عن محكمة سالم الاحتلالية سوى عدة أمتار ، وقبيل الدخول لاحظنا أن الاحتلال قطع شرايين الشارع عبر مكعباته الإسمنتية ومزق أحشاء الشارع بحفر ومطبات ، كأنه يقول لنا (سنريكم عذاب جديد) ومن أولى أوجه العذاب تجريدنا من كافة أجهزتنا الجوالة والمفاتيح حتى وصل الأمر إلى الأقلام وحقائب النساء وفوط الأطفال ،حيث جرت العادة ان يتم تسليم كل هذه الأمانات الى بائع عجوز اسمه ابا سلطان يقيم في كشك صغير بمحاذاة سور المحكمة ،استقبلنا العجوز با بتسامة عريضة،وسعال شديد ،ثم قدم لنا كوبين من القهوة ،في تلك اللحظات شعرنا أننا سندخل في دوامة معزولة عن البشر بعد أن صودرت أقلامنا وهواتفنا النقالة ،
وفي الثامنة والنصف فتحوا لنا البوابة الرئيسية للمحكمة ،وكانت المنطقة قد أصيبت بتخمة عددية ثلاثة أرباعها من النساء وقليل من الرجال الذين حضروا من مناطق مختلفة من فلسطين المنكوبة هذه الأيام بعدوى الاجتياح ،كل فرد منهم يبحث عن بصيص أمل يعيد له ابنه المذبوح على مقصلة الاعتقال في زنازين المحتل الإسرائيلي ،قالوا لنا ادخلوا إلى المحطة الثانية قبل الدخول إلى سالم المحكمة الإسرائيلية ،هناك شعرت أننا قي جهنم الظلم ،حيث تلاصقت الأجساد من شدة الاكتظاظ البشري ولفح رؤوسنا نار من لهيب الشمس الحارقة ،خاصة أن مدخلهم بلا مظلات وبواباتهم الالكترونية لايتم فتحها ،إلا بعد ان ينطق جنديا بلكنة درزية معروفه (ليدخل اثنان)وبعد دقائق يعيد الكرة وهكذا حتى جاء دورنا بعد ساعة من الزمن ،
في المرحلة الثالثة خضعنا إلى انتظار جديد طال أمده بعد ان سمحوا للنسوة والأطفال بالمرور من بوابتهم الالكترونية الثالثة ،حيث سلمنا بطاقاتنا الشخصية الى ضابط وظيفته التدقيق في بطاقاتنا مع سجل أبناءنا المعتقلين الذين تجري مراسيم محاكمتهم سمحوا لنا بالعبور ومنعوا شيخا عجوزا في الثمانينات من عمره لم تكن بطاقته الشخصية معه في تلك اللحظات ،بسبب شاب جاهل اعتاد ان يجمع هويات الناس من اجل تعبئة طلبات خاصة بالهويات الممغنطة الاسرائيلية التي يسعى العمال الحصول عليها من الارتباط الاسرائيلي في سالم من اجل الحصول على تصاريح تؤهلهم الدخول الى دولة المحتلين داخل حدود 48 من أرض فلسطين، ما دفع العجوز الى العودة من حيث عبرنا ليدخل في دوامة الاجراءات مرة ثانية ،هناك في غرفة انتظار الأهل قبل الدخول الى قاعات المحاكم شاهدت طابورا طويلا من الأجساد البشرية منهم من يجلس على مقاعد يزيد عددها عن أربعين ،وآخرين يقفون تحت لهيب الشمس الحارقة ينتظرون رحمة جندي او مجندة يحمل اسم ابنهم الأسير في ورقة،الغرفة كانت مكيفة الشكل ,لكن مكيفاتها كانت معطلة بقرار منهم ،تحولت الغرفة قبيل ساعات الظهر إلى جحيم لايطاق بسبب الاكتظاظ البشري تارة ،
وبسبب طول فترة الغداء التي يقضيها موظفو المحكمة بعد الثانية عشرة ظهرا حتى الواحدة والنصف ،في الثانية عادت عجلات المحكمة للدوران من جديد ،لكن ببطء أكثر ،طال انتظارنا وارتفع منسوب الغضب في صدورنا ،لكن ما خفف من وطأة الحر والغضب والانتظار براءة الطفل يزن (6شهور) الذي ملأ فضاء (غرفة الانتظار) ضجيجا وفرحا بذكاءه وضحكاته البريئة ،حيث أطفأ هذا الطفل ظمأ الأطفال العطشى بمذاق العصير من علبة عصير رافقته طيلة فترة الانتظار ،في الغرفة سمعننا قصصا محزنة وأخرى مفرحة ،شاهدنا عيونا نسوية دامعة وقلوب مجروحة ،شاهدنا صبايا في عمر الورود مازلن ينتظرن عريسهن الذي مازال في عتمة الزنازين ،وزوجات ينتظرن حلم مشاهدة أزواجهن بعد مسلسل طويل من الاعتقال ،وأمهات صابرات مرابطات اعتدن على المعاناة منذ النكبة واللجوء،في الرابعة عصرا جاء الفرج الرباني ،ودخلنا الى قاعة المحكمة وهناك وجدنا جيشا من العسكريين والعسكريات وطاولات وقضاة وحواسيب وحواجز منعتنا من ملامسة الأسير محمد ابوعرب الذي كان في قمة معنوياته ،لكنه كان كثير السؤال عن صحة شقيقته التي كانت تخضع لعملية في مشفى اسرائيلي ،لكن بلا أصفاد وقيود كتلك التي كانت تحاصر معصميه وقدميه.