الرئيسية / الأخبار / فلسطين
تهنئة على الكتف الأيمن وعلى الكتف الأيسر تعزية، هكذا استنشق كامل الخطيب أول أنفاس الحرية
تاريخ النشر: الجمعة 22/03/2019 20:25
تهنئة على الكتف الأيمن وعلى الكتف الأيسر تعزية، هكذا استنشق كامل الخطيب أول أنفاس الحرية
تهنئة على الكتف الأيمن وعلى الكتف الأيسر تعزية، هكذا استنشق كامل الخطيب أول أنفاس الحرية


تهنئة على الكتف الأيمن وعلى الكتف الأيسر تعزية، هكذا استنشق كامل الخطيب أول أنفاس الحرية
كتبت: دينا الصالحي ونجاح شالو
"صعدت الجبال وخضت النضال قهرت المحال حطمت القيود، فدائي فدائي فدائي" ، تلك الكلمات التي تدقُّ كالأجراس في آذان أشبال فلسطين صباح كل يوم مدرسي، وعلم فلسطين الذي يرفرف فوق ساحات مدارسهم، كفيلٌ بأن ينشئ أجيال تتوارث النضال وكفيلٌ بأن يغرس في عقل كل طفل حق استرجاع بلاده، ليكون كامل الخطيب واحد من أولئك الأشبال الّذين أخذوا عهدا على أنفسهم للسير قدماً دون رجوع نحو الحرية وزوال الإحتلال، غير مكترثين لإستشهادٍ أو اعتقالٍ أو تعذيب، ليقضي الخطيب في سجون الإحتلال 16 عاماً.
من بين أزقّةِ المخيم يروي لنا الخطيب مسيرته النضالية...
الخطيب قبل الاسر :
ولد كامل في الثاني عشر من شهر نوفمبر للعام 1977، وترعرع بين أزقة مخيم بلاطة، في أسرة لاجئة مناضلة مكونة من 12 فرداً، حالها كحال أبناء المخيم ليتنقل بين مدارسه، ثم يلتحق بحركة الشبيبة الطلابية مع بعضٍ من أصدقائه، ويبدأ العمل مع حركة فتح في السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1995م.
انتفاضة الأقصى : (2000م)
بعد مضي 5 سنوات من العمل مع السلطة الفلسطينية، جاءت انتفاضة الأقصى وعلا صوت نداء الوطن ليدُق مسامع أبناء الشعب الفلسطيني كافّة، فكان كامل الخطيب من أوائل الملبّين لهذا النداء، خاصّة بعد قرار الرئيس الراحل ياسر عرفات (أبو عمّار) للبدء بالعمل العسكري ضد الإحتلال الإسرائيلي والتصدي لهجماته.
بين نيران تلك الإنتفاضة بدأت الخطوات النضالية الأولى للخطيب، فيقول "تم تشكيل مجموعات عسكرية من أبناء السلطة الفلسطينية، وكنت أنا واحداً من اللذين تصدّوا لهجمات الإحتلال."
في عام 2001م، صدر قرار من الرئيس الراحل ياسر عرفات بوقف العمل العسكري وكنت أنا من الممتثلين لهذا القرار كوني مُحتَكِم للشرعيّة الوطنية الفلسطينية ورئيسها، وبما أنّي بدأت العمل العسكري بأمر من الرئيس، فعليَّ أن أُنهيه بأمر من الرئيس أيضاً.
من نور الشمس والضياء لعتمة السجن والإعتقال :
ثلاث سنوات من المطاردة، ولا يزال الخطيب يتظلل بأشجار التين الزيتون في جبال وربوع الوطن إلى أن وقع في شباك الغدروالظلام في الثاني عشر من شهر شباط لعام 2003م، ليصبح السحاب الأسود وغرف التحقيق المظلمة المشهد الثابت في عيني الخطيب.
يقول الخطيب "تم إعتقالي في شارع السكة في مدينة نابلس، كان هناك إنتشاراً واسعاً للعديد من المدرعات والدبابات والقوّات الخاصة، استمر الإشتباك مع الإحتلال من آذان العصر حتى صلاة العشاء، سقط حينها الشهيد (محمد الشعلان)، وأصيب ثلاثة أخرين من مناضلينا."
شهد شارع السّكة على العدوان والظلم والإضطهاد الذي يعانيه كل مناضل فلسطيني يدافع عن قضيته وشرفه وأرضه، كما شهد على سلب الحياة والأوطان، وعلى جنائز الشهداء وبكاء الأمهات وصبرالرجّال ...
يا دامي العينين والكفّين إن الليل زائلٌ لا غرفة التوقيف باقيةٌ ولا زرد السلاسل
"قبل إعتقالي تم إجراء فحص طبي في منطقة حواره للتأكد من عدم إصابتي بأي مرض، -وهذا الإجراء يُنفّذ مع كل أسير قبل إرساله للتحقيق-."
يتابع الخطيب "إستغرق الفحص الطبي ساعتين ثم تم نقلي مباشرة للتحقيق في سجن بتاح تكفا، إستمر التحقيق هناك لمدة شهرين متواصلين بما يتخلله من أنواع التعذيب، كالشبح، والضرب."
يكمل "بعد الإنتهاء من التحقيق تم نقلي لسجن عسقلان مكثت هناك خمسة أشهر، بعدها تم نقلي لسجن مجدّو أمضيتُ فيه سنه ونصف ثمّ جاء قرار بنقلي إلى سجن جلبوع كوني محكوم أكثر من 10 سنوات، لأبقى فيه سنة ونصف." (يقع سجن جلبوع في شمال فلسطين، يوصف بأنه السجن الأشد حراسة، ويحتجز الإحتلال فيه أسرى فلسطينيين يتهمهم بالمسؤولية عن تنفيذ عمليات داخل أراضي فلسطين المحتلة عام 1948).
يضيف الخطيب " تم قمعنا في سجن جلبوع من قبل إدارة السجون الإسرائيلية ونقلنا إلى سجن نفحا (يقع في جنوب شرق فلسطين،وهو سجن صحراوي بارد شتاءً حار جداً صيفاً، ويعد من أشدّ السجون الصهيونية وأقساها، واستُحدِث خصيصاً للمعتقلين من القيادات الفلسطينية في مختلف السجون لإخضاعهم للموت التدريجي، وعزلهم عن بقية السجون الأخرى)، بقيت هناك مدة ستة أشهر، لأعود من جديد إلى سجن عسقلان فتكون المدة الكاملة التي قضيتها فيه ثلاث سنوات،بعدها انتقلت لسجن رامون لمدة (8-9) شهور، وفي النهاية تم نقلي لسجن النقب لأستمر فيه 9 سنوات."
"البوسطة" :
"البوسطة اشي بقلعط" يقولها الخطيب مُشمئزاً واصفاً التنقل بين السجون سارحاً في تلك المشاهد كأنها لا زالت تحدث نصب عينيه، فيتابع "فترة الإنتقال من سجن لآخر تُعدُّ من أصعب الفترات التي تمرُّ على الأسير الفلسطيني، "فالبوسطة" عذابٌ تقشعر له الأبدان، وهي عبارة عن شاحنة مصفّحة محكمة الإغلاق يتم فيها نقل الأسرى للمحاكم الإسرائيلية أو لسجن آخر أو لنقلهم للمستشفيات، يجلس فيها الأسير على مقاعد حديدية تكون حارقة في فصل الصيف، وباردة كالثلج في الشتاء لمدة من(5-6) ساعات، لا يصلها ضوء الشمس ولا يدخلها الهواء إلّا من ثقوب صغيرة، يبقى فيها الأسير مكبّل اليدين والقدمين."
ومن الجدير بالذكر أن سلطات الإحتلال أجرت تعديلاً على البوسطة في العام 2006، لتصبح أكثر ألماً وقساوة، وتضمن التعديل تقسيم البوسطة إلى ثلاثة أقسام، اثنان منها على شكل زنازين لها أبواب داخلية مصفحة، يتم تجميع الأسرى ليصل عددهم إلى 40 أسيراً أثناء إجراء عمليات النقل الجماعي للأسرى، ويضم النصف الأمامي للبوسطة مرقدا لقوات " النحشون" المسؤولة عن نقل الأسرى متسلحة بالكلاب البوليسية التي تقوم بالتضييق على الأسرى عبر ترهيبهم بالصوت المرتفع ونشر الرعب في صفوفهم.
وبذلك تكون البوسطات الشبح المتنقل الذي يلازم تفكير أسرانا البواسل لا سيّما المرضى منهم، فلا يكتفي الإحتلال بما تسببه لهم من أمراض ليستمر في تعذيبهم حتى أثناء نقلهم لتلقي العلاج !
"رجال النحشون" :
يُكمل الخطيب حديثه " ناهيكم عن عذاب البوسطة بحد ذاته، فهناك أيضاً رجال النحشون وهم المسؤولين عن نقل الأسرى بين السجون، معاملتهم للأسرى مجرّدة من كل معاني الإنسانية لما يمارسوه من مظاهر الإهانة والذُّل، فيقوموا بتكبيل الأسرى بقيود اليد والأرجل، بالإضافة للدفش والضرب وعمليات التفتيش المهينة، وعمليات القمع والتنكيل."
يضيف الخطيب "على الرغم من كل ذلك التعذيب والمعاناة، إلّا أن فترة التنقل لم تخلُ من ممارسة الأعمال التنظيمية لإدارة الصراع بين الأسرى وإدارة السجون الإسرائيلية، وللحفاظ على حياة وكرامة الأسرى، فالأسير لا يملك سوى خيارين لا ثالث لهما إمّا الشهادة أو التأقلم مع واقعه، والحمد الله نحن أبناء قضية وأصحاب حقّ مؤمنين بعدل الله ونصره، فلن يهزّنا ظلم السجّان ولا قهره، ولن يحرّك ذلك من صمودنا ساكناً."
معاناة الاسرى في المعتقل
بيّن الخطيب أن مصلحة إدارة السجون الإسرائيليلة كانت وما زالت تحاول زرع الجهل في نفوس المعتقلين من خلال التفتيشات والمضايقات، باغية بذلك التخلي عن معتقداتهم ومبادئهم التي كانت هي خلفية إعتقالاتهم، فيقول "أسوأ ما يمكن أن يعاني منه الأسير في السجون هو رؤيته لجنود الإحتلال وهم يقوموا بتفتيش أهاليهم ومضايقتهم بطريقة بشعة تحت حجج إمتلاكهم لآلات حادّة، متعمدين بذلك إستفزاز الأسير وقهره."
ويتابع "لا يستطيع الأسرى السكوت عن مثل تلك الإنتهاكات بحق أهاليهم فكانوا يوقفوا الزيارات ويُرجعوا الطعام، إلا أن يضمنوا الحفاظ على كرامة زائريهم."
أما عن أكبر ألم هزّ كيان الخطيب في معتقله قال "أكبر ألم هو ابتلاعي خبر وفاة أخي الكبير إبراهيم وأنا داخل سجن عسقلان، فبعد شهرين من وفاته تلقّيت الخبر صدفة من صديق ٌ لي انتقل حديثاً لغرفتي فسلّم علي وبدأ يتحدث على غير طبيعته بكلمات أشعرتني بأن هناك مكروه واقع على أحد أفراد عائلتي ثمّ قال لي "يسلم راسك"، كنت أعلم أن صحة أخي لم تكن كما يجب ولكن لم أكن أتوقع أنه سيفارق الحياة."
التعليم في السجون :
لا تخلوا حياة الأسرى من العلم والتعليم، فضرورة اغتنام الوقت والسيطرة عليه بالتعلّم في السّجون أصبح إجباري على كل أسير، فلم يعد هناك أي أسير أُمّي بل أصبح يتوجب على الجميع أن يكون متعلمًا ومثقفًا، يجيد القراءة والكتابة، ويتوسع في دراسته ويطور ذاته.
فيقول الخطيب "دخلتُ سجون الإحتلال قبل أن أحصل على شهادة التوجيهي، فأكملت تعليمي داخل السجن وحصلت على الشهادة من التخصص العلمي بمعدل 70، ثم تابعت تعليمي الجامعي وأنجزت حتى الآن ما يقارب 74 ساعة."
يضيف" أكبر إنجاز حققه الأسرى في السجون خلال العامين الماضيين هو تحقيقهم لمطالبهم بفتح فرع لجامعة القدس المفتوحة داخل السجون، وتم ذلك بالتعاون مع السلطة الوطنية ووزارة التربية والتعليم وجامعة القدس المفتوحة."
ويكمل "لم يقتصر التعليم على الشهادات فقط، بل هناك جلسات حركية وثقافية ودورات إعلام وإدارة، ودورات عن الحركات الصهيونية، التي من شأنها أن تثقف الأسرى وتجعلهم مستعدين للإنخراط مع الواقع الخارجي بعد أن يتم الإفراج عنهم."
زيارة والدة كامل في المعتقل
يكمل الخطيب سرد ألمه بمعتقله وبعدَهُ عن أهله ليقول لنا " في بداية سجني كانت والدتي دائمة الزيارة لي فكانت زياراتها منتظمة على الرغم من كل المشقّة والتعب التي كانت تعاينها فكانت تخرج للزيارتي من فجر اليوم وتعود للمنزل بعد العشاء، كنت كثيراً ما أقول لها لا يما أتعبيش حالك فكانت ترد علي دائماً "طول ما فيي حيل وصحة رح أضل أزورك يمّا"."
يتابع كامل بصوت متحجرج تملأه الغصّة "في آخر ثماني سنوات ساءت حالة أمي الصّحية فأصبحت غير قادرة على الحركة إلّا على كرسي متحرك فقلّت زياراتها إليّ، كنت كثير الشوّق لها ولكن لم أكن أسمح لها بزيارتي حفاظاً على صحتها، كنت كلما اعتصرني الحنين لها أُنسّق مع الصليب الأحمر على أن يتم نقلُها بالإسعاف."
يضيف "بعد أخر زيارة لوالدتي انقطعت عني زيارتها لمدة 5 سنوات بذلت قصار جهدي لتزورني من جديد، فسنحت لها الفرصة قبل سنة ونصف من الآن لكن وضع الزيارة لم يكن كسابقاتها، كانت غير قادرة على الحركة ولا حتى على الإمساك بسماعة التلفون للتكلم من خلالها معي"، يقولها كامل وقد إعتصر ألما على تجاعيد وجه أمه بغيابه عنها، مكملاً أن إدارة السجون كانت تتعمد مضاعفة ألمه وحسرته، بمنعه من إحتضان أُمّه رغم صدور التصريح، الأمر الذي استفزه وزاد من إصراره على أن لا تبرح والدته من زيارته إلّا وقد إنتزع قبلات على يديها ووجنتيها رغم أنف السجان، وقال الخطيب والدموع تسبق كلامه:" إحتضنتها كالمودع الململم لكل تفاصيل حبيبه، ذلك الشعور الذي كان يرتابني بأنها ستكون أخر زيارة لأُمي وكانت كذلك".
الإفراج عن الخطيب ووفاة أمه
قبل الإفراج عن الأسير كامل الخطيب بأيام وصله خبر يؤكد له أن حالة أمّه الصحية في تراجع وبأي وقت قد يفقدها، ويقول لنا الخطيب أنّه تمنى أن يقطع الساعات ويصارع الوقت لإجتياز المعتقل والإعتكاف بحضن والدته، مترنمة في أذنه صوت أمه وهي بصحتها تقول له "يا رب يما ما أموت إلا وإنت متحرر وحاضنتك وملبستك إكليل الورد"، وتابع "روحي معلقة بإمي وروحها معلقة في".
يروي الخطيب أنه في يوم الإفراج عنه تأخرت معاملات خروجه، حيث كان من المفترض أن يصل باكراً إلى مدينة نابلس إلّا أنه وصل مع غروب الشمس، ليرسم له الغروب وجه أمّه، فحطت قدماه باب مستشفى الإتحاد حيث ترقد أُمّه فيها بقسم العناية المكثّفة، واصفاً لنا تلك اللحظة بأنها إمتزجت بمرارة الخوف من الفقد وحلاوة الإفراج، كما لو أنه لا يستطيع الوصف ليعبّر عن ذلك الشعور بالسكر المسمم.
ويتابع الخطيب "سرعان ما إستشعرت برائحة وحنان أمي رغم عجزها، حتى باشرت بتقبيلها ومسكت يدها قائلاً "يما أنا كامل رجعت غصب عنهم هيني أنا كامل إبنك بحضنك"، ويقول "وكأنها والله إستشعرت بوجودي بجانبها وأخذت تشدُّ على يدي كأنها تكلمني بلغة اللمس ،كانت أمّي قد أوصت بتلبيسي طوق الورد عند خروجي من السّجن في حال لم تكن قادرة هي على تلبيسي إياه، وفعلاً لبست طوق الورد فوق رأسها بالمشفى وقلت لها "هي طوق الورد برقبتي يا أمّي."
يكمل "بعد أن قضيت ساعات بالمشفى، إتجهتُ إلى المنزل بموكب كبير لأستقبل المهنئين لي، وعدت بمنتصف الليل للمشفى جلست بجوار والدتي لمدة ساعتين حدثّتها كثيراً وضممتها وقبلّت يديها كثيراً، أردت أن أعوّض كل ثانية أُبعدت بها عنها، كانت تسمعني وتشدّ على يدي أثناء حديثي كأنها تقول لي الحمد الله ع سلامتك يا حبيبي."
"في صباح اليوم التالي، جاءني خبر وفاتها مثل الصاعقة كانت جنازتها زفّة وعرس فلسطيني أمّي لم تكن كأي أحد كانت شهيدة تضحيات وصبر، قدّمت للوطن وللمخيم تضحيات كثيرة، فنقلت السلاح وخبأت الشباب ولعنت الإحتلال كل يوم في صلاتها." وإختتم الخطيب حديثه عن أمه قائلاً:" لقد كانت والدتي نعمَ الأم الصابرة فكانت لي وطناً كفلسطين."

وفي نهاية لقاءنا مع الخطيب وصف لنا معاناة الشعب الفلسطيني بدمعةٍ مزجت خليطاً من الحزن والفرح ليقول، "كلّ الشعب الفلسطيني دائم المعاناة، فلا تلبث مشاعر الفرحة بالقدوم إلّا ومشاعر الحزن قد زاحمتها للوصول."
 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017