بقلم: هاني المصري
كنت ولا أزال أرى ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية، تكون ضمن اتفاق وطني شامل يتضمن البرنامج السياسي، وأسس الشراكة، والمنظمة، والسلطة، والديمقراطية التوافقية، وفي قلبها الانتخابات، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، إلا أن هذا لا يعني أن نأمل، أو نعمل على إفشال الحكومة، بل الواجب يدعونا في ظل البوادر الإيجابية التي عبّر عنها رئيس الحكومة المكلف إلى دعم أي خطوة إيجابية ومعارضة أي خطوة سلبية، على أساس أن معيار الحكم عليها أو لها لا يكون على أساس ما ينبغي عمله، بل على ما يمكن عمله، خصوصًا في مجال وقف التدهور الجاري على كل المستويات والمجالات تقريبًا، الذي ينذر استمراره بالشرور وعظائم الأمور.
تأسيسًا على ما سبق، أتقدم بالملاحظات والاقتراحات الآتية:
أولًا: إنّ حجم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه القضية الفلسطينية تجعلنا بحاجة إلى مواجهتها، والانتصار، وهو بحاجة إلى ما هو أكبر من حكومة يشارك فيها البعض ويعارضها البعض الآخر، وهو التوافق الوطني على الوحدة على أساس حل الرزمة الشاملة، والتحضير لإجراء الانتخابات. أما إجراء الانتخابات أولًا تحت الاحتلال وفي ظل الانقسام والشيطنة المتبادلة فلا يقود إلى الوحدة، وإنما إلى الإقصاء والاحتراب، هذا إذا جرت الانتخابات أصلًا.
حتى نصل إلى تشكيل حكومة الكل، فلا يكفي أن نقول أنها كذلك، فيجب أن يتحول الأمر إلى حقيقة. فكيف ستكون حكومة الكل في ظل عدم عرض المشاركة فيها على فصائل أساسية، ومقاطعة فصائل أساسية من منظمة التحرير لها.
في هذا السياق، يتحدد أحد مصادر الحكم على الحكومة الجديدة بمقدار مساهمتها في توفير الأجواء التي تُمكّن من الوصول إلى الوحدة الوطنية. فالوحدة ليست مجرد خيار من الخيارات وإنما ضرورة وطنية. ولا يمكن أن تنجح الحكومة من دون حاضنة سياسية وحاضنة اقتصادية وحاضنة شعبية، وهذه الحواضن غير موجودة، أو غير موجودة بما فيه الكفاية. وبناء عليه، كلما تم الإسراع في تشكيل حكومة وفاق أو وحدة كان ذلك أفضل.
من المفيد ذكره ونحن نناقش المطلوب من حكومة اشتية الإشارة إلى أن الملفات الأساسية السياسية ليست بيد الحكومة، وإنما في يد الرئيس بوصفه رئيسًا للسلطة والمنظمة، وهو الذي يتحكم بها، ولكنها تؤثر عليها بشدة، ما يطرح على الحكومة أن تعمل على إقناع الرئيس بالموافقة على تغيير المقاربات المعتمدة سابقًا ولم تنجح، أو على الأقل إعطاء هامش معقول للحكومة يمكّنها من العمل، ويوفر لها فرصة للنجاح، وهذا أمر مفترض أن يكون قد اتُفق عليه عند التكليف وقبوله، لذا منتظر من الحكومة على سبيل المثال لا الحصر أن تعمل كل ما تستطيع القيام به لتخفيف العبء، وصون كرامة المواطن وحقوقه، وتوفير مقومات صموده.
ثانيًا: مطلوب من الحكومة طرح خطة تفصيلية تتضمن ما تنوي القيام به بالضبط، أكثر وأوضح بكثير مما جاء في خطابي التكليف والرد عليه، وتحديد ما تريد وما تستطيع القيام به، بعيدًا عن العموميات والشعارات، حتى يمكن مساءلتها ومراجعتها على ما تعهدت به. خطة تتضمن مثلًا كيف ستتعامل مع عجز الموازنة وقطع إسرائيل للأموال، وما البدائل الواقعية المتاحة، وكيف ستجعل فعلًا تحقيق الوحدة أولوية؟
كما على الحكومة أن تضم وجوه جديدة بشكل كامل، كفؤة، ومخلصة، ومنتمية للمواطن والوطن، وخصوصًا من الشباب والمرأة، وبنسبة كافية، وليس كنوع من الإكسسوارات، وتمثيل تجمعات اللجوء لتجسيد وحدة الشعب، واحترام المؤسسة التي غُيّبت تمامًا وإعادة بنائها، فضلًا عن دراسة السياسات والقرارات والتخطيط للعمل قبل تنفيذه، والتوقف أمام جميع الاحتمالات قبل الإقدام على اتخاذ القرارات لضمان أن تكون سليمة.
ثالثًا: قطاع غزة جزء مهم من فلسطين، وهو خزان الوطنية الفلسطنية والركن الثاني من أركان الدولة الفلسطينية التي هي حق طبيعي، واعترف بها العالم، وهي بحاجة إلى الكفاح المشترك لإنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني والسيادة. ويجب أن يبقى توحيد المؤسسات المنقسمة أو تهيئة الأجواء لحصول ذلك الشغل الشاغل للحكومة.
وفي هذا السياق، لا يمكن أن تستمر الحكومة في تبرير الإجراءات العقابية التي مورست ضد القطاع، لذا على الحكومة رفع هذه الإجراءات العقابية، وعدم اتخاذ إجراءات جديدة، فيكفي القطاع ما يعانيه من حصار وعدوان يمارسه الاحتلال، المسؤول الأساسي عن معاناة شعبنا هناك، ويكفيه ما يعانيه على يد سلطة "حماس" التي نفذت "انقلابًا" ولا تزال تعتبر المحافظة على سلطتها الانفرادية الأولوية التي تعلو على كل شيء.
رابعًا: إن المعطيات القائمة، محليًا وعربيًا ودوليًا، تدل على أن لا حل وطنيًا على الأبواب، والدولة ليست على مرمى حجر، وأن التحدي الأساسي الذي نواجهه هو وجود خطة لتصفية القضية عنوانها "صفقة ترامب"، وهي تطبق سواء طرحت الصفقة أم لا. ومرجعية هذه الخطة هي مصلحة الاحتلال، والحقائق التي أقامها على الأرض، لذا يجب تركيز الجهود على إحباط هذه الخطة، وليس معارضتها فقط، وهذا يتطلب:
تعزيز صمود الشعب واستمرار تواجده على أرض فلسطين، خصوصًا في القدس والمناطق المعرضة للمصادرة والضم والتهويد واعتداءات الجيش وقطعان المستوطنين.
إعادة النظر في الهيكل الوظيفي والإداري للسلطة بكل أجهزتها ووزاراتها لتصبح سلطة للشعب وليس لفصيل أو مراكز قوى، وهذا يتطلب تحويل الأجهزة الأمنية إلى أجهزة وطنية وليست فصائلية. وهنا نحذر من إغراق المؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية والحكومة بالمزيد من الفتحاويين، وخصوصًا أن طابور المستوزرين والراغبين في الترقيات والموازنات طويل وطويل جدًا.
ضمان كرامة المواطن وحقوقه وحرياته، وما يحتاجه تحقيق ذلك من دعم القضاء بوصفه سلطة مستقلة، ودعم حرية الإعلام ليقوم بدوره كسلطة رابعة، وإلغاء القوانين ووقف الإجراءات والممارسات القمعية التي تقيد الإعلام وغيره من القطاعات.
إعادة النظر في هيكلية الموازنة بحيث تُعطى الأولوية للاحتياجات والمصالح الأساسية، على أساس تقليل نسبة حصة الأمن التي تراوحت في موازنات السلطة منذ تأسيسها من 23-36%، وتخصيص نسب أكبر للزراعة والصناعة، والاستثمار في المناطق المسماة (ج) وفي قطاع غزة المحاصر، وكذلك لقطاعي التعليم والصحة اللذين يشهدان تدهورًا لا بد من العمل على إيقافه.
وضع خطة تقشف حقيقية تطال أصحاب المراكز العليا والامتيازات ورجال الأعمال والمؤسسات الكبيرة، ولا تمس الموظفين الصغار والعمال الفقراء، والابتعاد عن فرض ضرائب ورسوم جديدة، وعن الاقتراض الداخلي من البنوك وغيرها، الذي وصل إلى معدلات تنذر بالخطر.
يجب التعامل مع الأزمة الراهنة على أساس أنها فرع من المأزق العام الذي يجب العمل على تجاوزه، وهو ناجم عن اتفاق أوسلو والتزاماته، لذا من الضروري وضع خطط تدرجية لتنفيذ قرارات المجلس الوطني وليس الاستمرار في الحديث عن تشكيل لجان تقوم بوضع خطط لا ترى النور، بحيث تبقى القرارات حبرًا على ورق، ما يضرب ما تبقى من ثقة ومصداقية للقيادة والسلطة.
خامسًا: يجب أن يكون الرهان على الشعب وقدراته وكفاءاته وإبداعاته، وهو أثبت دائمًا أنه يلبي النداء. وحتى يستطيع الشعب أن يعطي كل ما لديه، يجب العمل على ردم الهوة بين السلطة والقيادة والشعب، وهي هوة واسعة جدًا، ومفتاح ردم الهوة يمكن أن يكون بالحرص على كرامة المواطن وحقوقه وحرياته ومصالحه التي تنتهك بلا حسيب ولا رقيب.
ويمكن أن يساعد على نجاح هذا الرهان تمكين الشعب بمختلف قطاعاته من تحمل مسؤولياته إلى جانب الحكومة، لأن تكامل عمل القطاع العام والخاص والأهلي وتشكيل الفرق الاقتصادية وغيرها، يمكّن من معرفة ما يدور، ويوفر القدرة على المساءلة والمحاسبة، مما يعوض ولو بشكل نسبي غياب المجلس التشريعي.
إن الرهان على الولايات المتحدة خسر، وعلى التغير من داخل إسرائيل خسر، والرهان على وقف اقتطاع أموال المقاصة بعد الانتخابات سيخسر، لأن هذا القرار جزء من حملة شاملة متعددة، مرشحة للتزايد لإجبار القيادة على قبول المخطط التصفوي أو التعايش معه على الأقل، وتجويع الشعب وكي وعيه وجعله مستعدًا لقبول السلام الاقتصادي بعيدًا عن حقوقه الوطنية، ما يعني ضرورة الشروع في تغيير شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها لتصبح فعلًا في خدمة البرنامج الوطني وأداة في يد المنظمة التي تحتاج إلى إعادة بناء مؤسساتها لتضم مختلف ألون الطيف السياسي والاجتماعي.
لقد ابتدأت المقال بالوحدة، وأختم بها، لأن الوحدة رغم صعوبتها ممكنة إذا توفرت القناعة والإرادة، ولأن المخاطر الجسيمة جدًا تهدد الجميع ولا تستثني أحدًا، ولأن الجميع تحت وطأة مأزق شامل، الأمر الذي يجعل الوحدة - والوحدة فقط - طريق الخلاص الوطني.
تقوم الوحدة عندما تقتنع حركة فتح أن الهيمنة والتفرد على المؤسسة واحتكار القيادة إلى حد كبير قد ولى زمنه، وعندما تقتنع حركة حماس أن "انقلابها" وسيطرتها على القطاع أحد أهم الأسباب لوقوع الانقسام واستمراره. فالشراكة في نظام سياسي واحد هي الحل السحري، والوحدة هي هدف يستحق النضال من أجله، مهما كان صعبًا أو حتى مستحيلًا، فالتاريخ مليء بتحقيق المستحيلات.
أخيرًا، أتمنى للحكومة النجاح، وألا تغرق في بحر المشاكل والتحديات الممتد.