انتهى التحقيق الذي أجراه المحقق الخاص روبرت مولر بأسوأ طريقة ممكنةٍ لتحالفٍ كبير من القوى كان يُمنِّي نفسه برحيل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أو على الأقل بداية نهايته. فمع ظهور نتائج التحقيق الأولية، تجنَّب ترامب وعائلته بعض أشد الأسئلة التدقيقية التي كان من الممكن أن تُطرَح على رئيسٍ وهو ما زال في منصبه. وصحيحٌ أنَّ الأسئلة المتعلقة بإعاقة العدالة لم تنتهِ بعدُ، لكنَّ مفاجآت مولر المدوية المُنتظَرة أصبحت سراباً، وانتعش ترامب وعاد أنصاره إلى الدفاع عنه. والآن، يبدو احتمال فوز ترامب بولاية ثانية أكبر من ذي قبل.
تحولاتٌ زلزالية
يقول الكاتب والصحفي البريطاني ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع Middle East Eye البريطاني، إن من المؤكد أنَّ واشنطن لن تكون المكان الوحيد الذي سيشعر بالتحولات «الزلزالية» التي حدثت في السلطة هذا الأسبوع. وإذا كنتم تريدون معرفة من سيدفع ثمن استعادة ترامب انتعاشه ونشاطه، فالإجابة واضحة أمامكم بالفعل: الفلسطينيون. فبينما انتهى الفصل الأخير من دراما تحقيق مولر، بدأت دراما أخرى تتكشف تحت السطح. وهي دراما مهمةٌ للغاية للشرق الأوسط، لأن هذا الرئيس، الذي يمكنه إقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الذي يحقق معه أو إغراء الشهود المحتملين بمنحهم عفواً رئاسياً، بات يشعر بالراحة وغير مقيد.
إذ قدَّم ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هضبة الجولان، وهي هدية عَزف عن تقديمها جميع الرؤساء الأمريكيين السابقين، سواء أكانوا جمهوريين أم كانوا ديمقراطيين، وقد كانوا محقين في ذلك، ورفضها الاتحاد الأوروبي بشدة، الأربعاء 27 مارس/آذار 2019. يُذكَر أنَّ إسرائيل استولت على هضبة الجولان الواقعة على الحدود السورية، في الوقت نفسه الذي استولت فيه على الضفة الغربية. وإذا سُمح لإسرائيل بالاحتفاظ بهذه القطعة من الأرض المحتلة، فلا يوجد ما يمنعها من ضم أجزاء من الضفة الغربية أو ضمها بأكملها.
ترامب يفعل ما يريده فقط
وهذه بالضبط هي النقطة التي ذكرها مسؤولٌ بارز في الطائرة التي عادت بنتنياهو من واشنطن، لأحد مراسلي صحيفة Haaretz الإسرائيلية، إذ قال: «الكل يقول إنَّه لا يمكنك الاحتفاظ بأرضٍ محتلة، لكنَّ هذا يثبت قدرتك على فعل ذلك. فإذا احتُلَّت هذه الأرض في حربٍ دفاعية، تصبح مِلكاً لنا حينئذ». وقد كان منطق ترامب في تسليم الجولان إلى إسرائيل بسيطاً، وهو ما أوضحه بصراحةٍ على قناة Fox News الأمريكية. وكان ذلك شبيهاً للغاية بقراره نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، إذ قال: «لقد انهالت عليَّ مكالماتٌ من قادة دول في جميع أنحاء العالم، ومعظمهم قال لي: (مِن فضلك لا تفعل ذلك، لا تفعل ذلك). لكنني فعلته، والأمور على ما يرام، ولم يحدث شيء». بعبارةٍ أخرى: «لقد نجحت في الإفلات من أي عواقب سلبية بعد قرار القدس، لذا سأتمكن من فعل الأمر نفسه في قرار الجولان».
«باسم الرب»
لقد فكَّك ترامب ونتنياهو الدولة الفلسطينية قطعةً قطعة وشبراً وشبراً، وقضوا على أي وسيلة تفاوضية لإقامة دولةٍ فلسطينية. وأنهى ترامب جميع مساهمات الولايات المتحدة في وكالة الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين)، التي أصبحت المصدر الرئيسي لتوفير الوظائف والتعليم والإعالة في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. وبالإضافة إلى ذلك، سوف يمنع حصول محامي المحكمة الجنائية الدولية الذين يحققون في جرائم الحرب الإسرائيلية على تأشيرات دخول الولايات المتحدة. وقد أعلن أنَّ معاداة الصهيونية تُعتبر معاداةً للسامية. وأبعد القدس وهضبة الجولان عن طاولة المفاوضات، وأعلن الآن أنَّ المحتلين يمكنهم الاحتفاظ بالأرض التي استولوا عليها. وقد فعل كل هذا باسم الرب! فحين سُئِل وزير الخارجية، مايك بوميبو، في زيارته الأخيرة لإسرائيل، عمَّا إذا كان الرب قد أرسل ترامب للمساعدة في إنقاذ الشعب اليهودي من الخطر الإيراني، أجاب قائلاً: «بصفتي مسيحياً، أعتقد بالتأكيد أنَّ هذا ممكن». وأضاف: «زرت الأنفاق القديمة، حيث تمكنت من رؤية تاريخٍ يرجع إلى 3000 أو 2000 سنة مضت، إذا لم تخنِّي معلوماتي التاريخية، وقد كان من الرائع رؤية التاريخ الاستثنائي للدين في هذا المكان والعمل الذي بذلته إدارتنا للحرص على استمرار قيام هذه الديمقراطية، وهذه الدولة الإسرائيلية». ثم اختتم حديثه قائلاً: «أنا واثقٌ بأنَّ الرب يعمل هنا».
ولاية رئاسية جديدة
هذا هو ما حققه ترامب رغم تقيُّده بتحقيق مولر المستمر. فما الذي سيفعله ترامب الآن في الشرق الأوسط إذا تحرَّر من هذه القيود؟ وما عواقب فوز ترامب بولايةٍ رئاسية جديدة وإعادة انتخاب نتنياهو على الفلسطينيين؟ يتمثَّل الهدف الأول من هذه الحرب القائمة على مبدأ «فرِّق تسُد»، باستخدام التهديدات والتحالفات في ضم المنطقة «ج» التي تضم معظم المستوطنين وتشكل 61% من أراضي الضفة الغربية. والهدف الثاني هو فرض رئيسٍ مُطيع خلفاً لمحمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية. أمَّا الثالث، فهو شنُّ هجومٍ عسكري على قطاع غزة، للقضاء على حركة «حماس» نهائياً. يستدرك هيرست: لكنَّ ترامب مُحق. فمن العار الذي لا يموت أن الحُكَّام العرب المدعومين غربياً يُهلِّلون له جميعاً. ومن الواضح أنَّ الجيل القادم من الحُكَّام العرب، مثل محمد بن سلمان بالمملكة العربية السعودية، ومحمد بن زايد في أبوظبي، وعبدالفتاح السيسي بمصر، فضَّلوا علاقاتهم التجارية والأمنية الخاصة مع إسرائيل تفضيلاً واضحاً على تنفيذ تعهُّدات أسلافهم التاريخية بحماية الفلسطينيين والقتال من أجلهم. لدرجة أنَّهم توقفوا حتى عن التظاهر بمواصلة مقاطعة الدولة الإسرائيلية التي لم يعترفوا بها بعد، في انتظار تسويةٍ فلسطينية متفق عليها. ومن ثمَّ، فالكل صامتٌ عن تدمير الحق الفلسطيني في هذا الصراع.
«ثمِلان» لديهما سلطة
يقول هيرست إن الفلسطينيين أصبحوا وحيدين تماماً. وترامب ونتنياهو، اللذان يُعدان من أكثر القادة تدميراً في الشرق الأوسط، أشبه بشخصين ثمِلين لديهما سلطة. والثمِل هو آخر شخص يستشعر الأخطار التي يراها الأشخاص العقلانيون وأصحاب الرزانة. منذ عام 1948 إلى عام 1965، كانت مقاومة الفلسطينيين ضد إسرائيل في حالة سباتٍ عميق دون وجود قادة لتمثيلهم، لكنَّهم نهضوا لتشكيل حركة مقاومة تمثلت في «فتح» وجماعاتٍ أخرى، وحَّدت قضيتُها العالم العربي واستحوذت على اهتمامه طوال 3 عقود. والتقاعس ليس استسلاماً. لذا فعدم وجود قيادة فلسطينية في الوقت الحاضر يمكنها نيل حقوق شعبٍ محتل واسترداد أرضه لا يرقى إلى درجة الاستسلام، أي إنَّ اللعبة لم تنتهِ.
فمن وجهة نظرٍ رزينة، تجب الإشارة إلى أنَّ العَلم الوحيد الذي شوهد في المظاهرات الحاشدة المُطالبة بالديمقراطية في الجزائر إلى جانب العَلم الجزائري هو العَلم الفلسطيني. ومن وجهة نظرٍ عقلانية، ينبغي القول إنَّ الشارع العربي ما زال يكره إسرائيل ويراها تهديداً كما هي الحال دائماً. في حين أنَّ اعتماد الحُكَّام العرب ذوي الشرعية الهشة على إسرائيل صار أكبر من أي وقتٍ مضى. لذا فأي موجة جديدة من الربيع العربي، مثل تلك التي قد نشهدها في الجزائر، ستغير ذلك الوضع. فالكتلة الأكبر من الرأي العام العربي، المُهمَّشة والمقموعة على يد حُكَّامها، لن تبقى مكتوفة الأيدي، بل ستبدأ التحرُّك في اتجاهات أخرى. أمَّا أوروبا، فهي مختفية عن الساحة ومنشغلة بالشقاق القائم بين دولها. في حين أنَّ روسيا خارج المشهد تماماً.
الحرب التالية
يترك هذا قوتين إقليميتين متبقيتين للحفاظ على اتِّقاد شعلة القضية الفلسطينية: تركيا وإيران. إذ يعتزم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، حالياً تحويل متحف آيا صوفيا في مدينة إسطنبول التركية إلى مسجد، رداً على اعتراف ترامب بسيادة إسرائيل على القدس الشرقية وهضبة الجولان. يُذكَر أنَّ المتحف كان في الأصل كاتدرائية شيَّدها الإمبراطور البيزنطي جستنيان، ثم صار مسجداً بعد الفتح العثماني لإسطنبول، قبل أن يحوِّله كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، إلى متحف. وهذه الخطوة إشارةٌ واضحة إلى أنَّ الاثنين يمكنهما لعب لعبة تحريك المنشآت الدينية في منطقةٍ حساسة. وقد قال أردوغان: «يحاول ترامب الآن إعلان القدس عاصمةً (لإسرائيل). ويعترف بسيادة إسرائيل المُحتلة على الجولان. سوف تتلقى رداً على ذلك من تركيا بالتأكيد». ويبدو أنَّ ترامب، مثل الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب مِن قَبله، يسيء فهم كيفية سير الأمور في الشرق الأوسط. فإيران تتوسع بصفتها قوةً إقليمية في الفراغ الناجم عن انتشار الدول الغربية المُبالغ فيه بالمنطقة وسوء تقديرها ثم انسحابها في نهاية المطاف. وليس على إيران سوى الانتظار حتى ترى المكاسب تتساقط في حضنها. يقول هيرست إنه في الوقت الراهن، يجتمع قاسم سليماني، المسؤول الإيراني الأكثر فاعلية، مع كل جماعة سُنية عربية وكل سياسي سُني عربي قدر استطاعته، سواء من العراق أو مصر أو سوريا أو فلسطين. وجديرٌ بالذكر أنَّ كل تلك الجماعات التي قاتلت إيران وحزب الله قتالاً مريراً في سوريا، تجد الآن مُنصِتاً ومُحاوراً جديداً في هذا الرجل. وتجدر الإشارة إلى أنَّ ترامب ونتنياهو لا يحتلان الشرق الأوسط، لكنَّهما ربما يعيدان ضبطه للحرب التالية. فإسرائيل، الجامحة غير المقيَّدة، هي آخر قوة على الأرض ترى الضرر الذي تسببه، وأجيال الصراع التي تولِّدها.. صحيحٌ أنَّ المنتصر يأخذ كل شيء، لكن ليس بالطريقة التي تتخيلها إسرائيل الآن.