كتبت وطن نعيرات
لا زلت أذكر ذاك اليوم في عامي الخامس عشر، عندما أعلنت مدرستنا عن رحلة إلى أراضينا المحتلة، كنت أنتظر ذاك اليوم بفارغ الصبر وأحضّر نفسي لرؤية البحر وكل ما تم رسمه في مخيلتي عن جمال بلادنا.
إلا أن هذه الانتظار تلاه حزن وأسى أكبر منه، حين أخبرتني مديرة المدرسة عن منع الإحتلال لي بالذهاب.
ولكن لا زالت في مسمعي كلمات سطرتها معلمتي بعد عودتهم من مدينة عكا المحتلة " الإحتلال صادر الأرض ولكن لم ولن يصادر أي معلم وحضارة تؤكد على مجد هذه الأمة وتاريخها وتضحض رواياتهم الزائفة"
ترنمت مسامعي على هذه الكلمات التي تدمع لها العين، وشوقي لكل ما تم وصفه من معالم وأماكن تجعل القلب ينفطر لرؤيتها.
الآن وبعد خمس سنوات قهرت الإحتلال بدخولي لأرضي المحتلة ولمدينة عكا خاصة التي حفظت شوارعها ومعالمها منذ ذاك الوقت الذي منعت فيه من الدخول اليها.
لحظة الوصول تتجسد برؤية البحر الذي يعانق خيوط اشعة الشمس عند الغروب، لحظة صمت في حرم الجمال الرباني، أكاد أجزم ان كل ذلك من وحي الجنة!
ثم كانت جولة الشوارع والمحال القديمة، لتسطّر وترسم أفق إلى البعيد من هذا الزمان وتقول أن هذه فلسطين وهذه حضاراتها القديمة الأصيلة من زمن ينطق به الحجر.
وحين نصف عكا وجمالها وبهاءها لابد ومن اللبنة الأساسية لمعالمها العريقة، ألا وهو جامع الجزار، الجامع الكبير العريق الذي يُحي المدينة.
جامعٌ بناه أحمد باشا الجزار حاكم عكا قديماً في العام 1781 م، بني على طريقة مساجد اسطنبول الفخمة، يذهل العقول من جمال بناءه.
يحمل في طياته باحات كبيرة، تحتوي على أشجار كثيرة ومتنوعة ورد ذكرها في القرآن الكريم، وتتوسط هذه الباحات نافورة مياه ومكان للوضوء، إضافة إلى ساعة شمسية تحدد موعد الصلاة تبعاً لعمودية الشمس.
ومن هذا الجمال ننطلق لذكر الجمال والبهاء في حرم الجامع من قبة وجدران والتي تعد من أروع وأبدع مظاهر الفن الإسلامي في العهد العثماني.
فما كان من العثمانين قديماً اتخاذ المسجد كمعلم ديني فقط، إنما كان يعد أيضاً صرحاً علمياً واسعاً، فقد اشتمل الجامع على المدرسة الأحمدية - قديماً- والمكتبة الأحمدية حتى الان، حيث تعد منارة علم لما تحويه من مخطوطات نادرة وقيّمة.
وبالقرب من الزاوية الشمالية الغربية من الفناء الواسع للجامع، ضريح من الرخام للجزار وخليفته سليمان باشا.
ويتميز هذا الجامع بالاضافة الى فخامته وعراقته، بمئذنته المرتفعة الشامخة، كما أن للمسجد بابان يتصلان بأدراج عريضة نظراً لارتفاعه عن الشارع الرئيسي، يحمل كل منهما نقوشاً وزخارف إسلامية تمجّد أرض فلسطين.
وما بين فلسطينية زائرة لأرضها و"مستوطن" يعيش بأمان وفي بلادها، تظهر آثار حرمان الأجيال القادمة من التنعم بجمال فلسطين.