اذن فان حديث الشارع هذه الايام يتركز حول موضوع الزيادة على رواتب رئيس الحكومة والوزراء. حيث يجري تداول صورة لكتاب رسمي حكومي بإقرار زيادة بقيمة الفي دولار على الرواتب. وفي تفاعلات الموضوع اكد امين عام مجلس الوزراء بان الكتاب صحيح، وهو موجود منذ ما يقارب العامين. وفي منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، اشار وزير مستقيل من الحكومة السابقة الى ان جميع وزراء الحكومة السابقة كانوا فعلاً يطالبون بزيادة رواتبهم.
تفاعلات هذا الامر وتداعياته عديدة ومتفرعة، وحتى لا أطيل فإنني سأكتفي بالتطرق الى جملة من القضايا ذات العلاقة، ورغم ذلك فانه لا يفوتني قبل ذلك التطرق الى السؤال التقليدي الذي يدور في اذهان الكثيرين وهو: اذا كان الموضوع قد تم منذ عامين فلماذا تم "التكتم" على الموضوع طوال هذه الفترة؟! ولماذا تتم اثارته الآن؟! رغم مشروعية النقد الموجه الى قرار الزيادة.
من الناحية القانونية، فان المؤشرات تشير الى ان قرار الزيادة لم يكن قانونياً، ولم يمر عبر القنوات القانونية، وبالتالي فان "الحكومة" قامت بإجراء غير قانوني طوال عامين كاملين، بموافقة كامل اعضاء ووزراء الحكومة، او صمت بعضهم على الاقل، وهنا الخطورة في الامر اذا كيف يحظى مثل هذا السلوك غير القانوني بمثل هذا الاجماع؟! هذا في ذات الوقت الذي كانت فيه كل قرارات وبيانات الحكومة ووزرائها خلال فترة العامين يغلب عليها عنوان السعي الى تكريس النظام وسيادة القانون.
من زاوية ثانية فان الكشف عن الأمر يعيد طرح موضوع الشفافية الى الواجهة من جديد. وفي اعتقادي فان "التكتم" على الزيادة، ربما يكون اخطر من قيمة الزيادة بحد ذاتها، ذلك ان الكشف عنه بعد عامين من حدوثه يشير الى ان هناك ازمة حادة في الثقة بين الحكومة ووزرائها وبين المواطنين عموماً، وتنعدم الشفافية والمكاشفة. اذ كيف يعقل ان يكون مجمل خطاب الحكومة يدور حول المواطنين وتسهيل وتحسين ظروف عيشهم وتمكينهم من الصمود على ارضهم، حتى ان خطة الحكومة المقرة للأعوام (2017-2022) حملت عنوان "المواطن اولاً، في حين ان واقع التطبيق في اروقة الحكومة كان زيادة رواتب الوزراء احد اهم الاولويات؟! فأين كان المواطن ومصلحته؟!
من زاوية ثالثة هذا الأمر يعيد طرح موضوع الرواتب عموماً للنقاش المجتمعي. فمن ناحية فان رواتب الوزراء ورئيس الحكومة تبدو "قليلة" مقارنة ببعض الرواتب التي يتقاضاها بعض موظفي الهيئات والمؤسسات الحكومية والخاصة والاهلية، ونحن نعرف ان بعضها قد يصل الى ضعف او اضعاف رواتب الوزراء حتى بعد تلك الزيادة؟! ومن ناحية ثانية فان هذه الرواتب تعتبر "خيالية" في مقاييس الحكومة نفسها ووزراءها، حتى اولئك الوزراء منهم الذين ساهموا في رسم سياسة الحكومة في مجال التشغيل وحقوق العاملين. فتصدى بعضهم لحراك المعلمين مثلاً الذي كان يطالب بتحسين رواتب العاملين في التعليم، وتصدى وزراء اخرون لحراك الضمان الاجتماعي، وفشل آخرون في اجراء تعديلات على الحد الأدنى للأجور الذي نعلم جميعاً انه لا يتعدى اربعمائة دولار، بل وفشل بعضهم حتى في ايجاد آلية مناسبة لمراقبة تطبيق حتى هذا الحد الادنى المجحف، ووصلت اجور العمال في بعض القطاعات الى ما يقارب مائتي دولار فقط لا غير.
وكما تقول المقولة الشعبية "اللهم لا حسد"، قد يستحق الوزراء رواتب مثل هذه، وقد يستحقون اكثر او اقل، ونفس الامر ينطبق على كل الهيئات والمؤسسات الحكومية، وغير الحكومية (الاهلية والخاصة)، العامل الذي يتقاضى الحد الأدنى للأجور، والوزير الذي يتقاضى اربعة آلاف دولار، والموظف الذي يتقاضى عشرة آلاف دولار، وهناك بعض الموظفين يتقاضون اكثر من عشرين الف دولار ويجادلون بانهم يستحقون اكثر، كل منهم يرى انه يستحق راتبا مرتفعاً، ويستحق زيادة على راتبه، فكيف الخروج من هذه الدوامة؟! اعتقد انه يمكن ذلك من خلال سياسة وطنية عامة "عادلة" للأجور والرواتب، تجمع عليها كل فئات وشرائح المواطنين. وحتى ان تعذر تطبيقها كاملة، فإنها على الاقل ستكون موجه عام لسياسة الاجور في الوطن.
اعتقد ان طرح الامور بهذا الشكل يطرح تحدي كبير امام حكومة د. محمد اشتية، لا يقل عن التحديات السياسية القائمة. وبالعكس فإنني اعتقد ان النجاح في مواجهة اية تحديات سياسية لن يكون ممكناً الا في ظل تصدي ناجح بامتياز للتحديات الداخلية، تعزيز الشفافية والمكاشفة اولاً، تعزيز سيادة النظام والقانون وضمان المساواة بين الجميع تحت سقف القانون، والتحسين الفعلي، وليس الخطابي، في جودة ونوعية الخدمات المقدمة للمواطنين. وبدون تحقيق ذلك فانه يبقى قائم دائماً في "اللاشعور" للمواطنين، افراداً وجماعات ذلك الهاجس القائل، ما هو الجديد الذي ستكشفه لنا الايام لتبت لنا ان شكوكنا وتخوفاتنا كانت في محلها؟! وان كل ما نسمعه من خطب وشعارات لم تكن تساوي حتى الحبر الذي تكتب به.
نبيل دويكات
رام الله- 30 أيار 2019