الرئيسية / مقالات
هل كان جدي دوسلدورفياً ؟
تاريخ النشر: الأربعاء 12/06/2019 09:02
هل كان جدي دوسلدورفياً ؟
هل كان جدي دوسلدورفياً ؟

نص: ثائر ثابت

هي جدلية الأسئلة حين تثير في ذواتنا زوبعات من رغبات الاكتشاف ومتعة الفضول؛ فلسفة التنقيب عن ما تركوه هناك من ذكريات وقصص وحكايا وأسماء وأرقام وأشياء غامضة، هذه المرة يختلف النص في جنسه وشكله؛ لا يقبل أن يكون صحافياً ولا أدبياً ولا مرثية متقنة، بل هو أقرب إلى عودة الأحفاد للبحث عن أزمنة الأجداد في بلاد الألمان.

هناك، وتحديداً في مدينة جميلة تسمى "دوسلدورف" عاش جدي المرحوم محمد ثابت المعروف "بأبي الخير" 25 عاماً، أي ربع قرن من الزمن، أمضاها حِرفياً في أكبر شركات ومصانع Mannesmann التي اشتهرت بصب الحديد وما شابه.

الجد القادم إلى تلك البلاد في نهاية خمسينيات القرن الماضي مع مجموعة عمال فلسطينيين وعرب باحثين عن حياة فضلى ومصدر رزق وفير، كل واحد منهم ربما رسم أحلامه بحبر الترقب والأمل والاشتياق والانصهار.

كثيرة هي الأشياء التي كانت تجول في خواطرنا نحن الصغار، عن حياة الجد هناك، وأسئلة مشرعة في وجه الاحتمالات، حول الأصدقاء والحبيبات والمال والثقافة، لكن الإجابات تكاد تكون ضئيلة أو مبتورة، وهي أشبه بخزائن مجوهرات تغريك بمظهرها الخارجي بيد أن قلوبها فارغة تماماً...!

في رحلتي هذا الصيف لبلاد الألمان، تزامنت زيارتي والذكرى العاشرة لرحيل جدي عن الحياة، ودائماً ما يحيرني كيف عاد هنا للبلاد في ثمانينيات القرن المنصرم، ولم يفكر يوماً أن يعود إليها ولو لقضاء إجازة ما في دوسلدورف، مع أن نجله، أي عمي، الذي يعيش في ألمانيا منذ أربعة عقود تقريباً لم يقنعه أن يأتي إليه لزيارة عائلية؛ لاسترجاع زمن الحنين سيما وهو الذي عاصر بعض الذكريات والمواقف معه في المدينة ذاتها ؟!.

دوسلدورف، عاصمة ولاية شمال الراين وستفاليا، يشقها نهر الراين، تماماً كما تشق سكينة خاصرة تفاحة يانعة، مدينة رغم الخسائر التي تكبدتها إثر حروب موجعة، بقيت محافظة على جمالها الأخاذ، متمردة على الانكسار، حتى باتت من المراكز الاقتصادية القوية لا على مستوى ألمانيا فحسب؛ بل على مستوى العالم.

ووفقاً لبعض المسوح، في العام 2009 - وهو العام الذي ترجل فيه الجد عن صهوة الحياة -، "احتلت دوسلدورف المرتبة الأولى على مستوى ألمانيا والسادسة على مستوى العالم في قائمة أفضل المدن من حيث جودة المعيشة"، لا ندري هل كانت ستثير هذه المعلومة الفضول لدى الجد وهو يتأملها .... هي أسئلة لا أكثر ...؟!

التنقيب في رمل الذكريات، ربما هو الأجمل والأعمق من البحث عن التبر، إذ يسحبك الحنين بسطوة إلى حيث ما عاش جدي أبو الخير؛ تتشابك المشاعر كما الأسئلة المختلطة، عندما تتأمل نوافذ العمارة الصغيرة التي سكنها وهي حاملة رقم (53) وأسماء الساكنين المكتوبة على جرس كل منزل تتخيل اسمه بينهم، الدراجات النارية المتعانقة برؤوسها على مقربة من الباب، مكتب السفريات والسياحة، دكانة أو مخبز الكعك الذي كان يعشقه، كلها تتعرف عليها أو هي تتعرف عليك، وأنت الحفيد الآتي؛ لنبش ركام الحكايا بمعول الفضول؛ فضول الصحافي الذي يشتم عبق الأماكن؛ لينقلها أو ليحاصرها على جسد الورق أو في الفضاءات الإلكترونية.

جدي المولود في قرية صغيرة اسمها عزموط تتبع محافظة نابلس، وحسب المؤرخ مصطفى مراد الدباغ معناها "القوي حتى الموت"، مات الجد القوي فيها، ولم تغيره سنوات الغربة إلى حد الانسلاخ، فقد عاشت فيه القرية وعاداتها وتقاليدها، حتى حين عاد ليستقر فيها، معلناً عن رحلة مشاريعه التجارية، صرافة، وخضراوات، ولحوم، وآخرها أدوات منزلية، كلها تجارب في محل صغير ابتاعه في سوق مدينة نابلس الشرقي، وما يزال حتى اللحظة يشهد على منطقه في البيع والشراء، ما زلت أتذكر عناده وطبعه الحاد ومزاحه المهاب، السعر عنده لا يقبل القسمة، ولا مجال للمفاصلة أو المجاملة، هل هي عادة ألمانية أم أنها صفات التاجر المر ...؟! هي أسئلة وتتكرر.

هنالك أشياء متناقضة أو متداخلة في شخصه، وهي تثير دوماً حوله الأسئلة، هل كان قروياً فلاحاً عزموطياً ( نسبة إلى قريته) ؟ هل كان تاجراً مدنياً نابلسياً ؟ هل كان حرفياً ألمانياً دوسلدورفياً ...؟

جدي دوماً كان ينتصر للأناقة؛ فكثيراً ما تروق له الملابس العصرية وألوانها، لا ندري هل هي عادة أصيلة أم مكتسبة من الألمان؟ وما يبرهن على عشقه للموضة والتمتع بصيحاتها، هو صداقته مع شارع الكونيغساله Königsallee ( شارع الملوك) وهو الذي قادني خلال جولتي مستكشفاً سر هذه الصداقة؛ فهذا الشارع يشتهر بجذبه للسياح وللزبائن العاشقين للبضائع والماركات العالمية .. كم خطوة ترك جدي على رصيف الكونيغساله خلال ربع قرن من الزمن ...؟!

في دوسلدورف، وضمن نظام صارم خصص الجد ساعة واحدة كل يوم لمتعة السباحة، كان يدرك تماماً جدوى الرياضة للجسم وللروح وللقلب، حتى قبل وفاته بأيام لم يترك ميدان رياضة كمال الأجسام، أو المتعارف عليها رياضة الحديد ... وهذه الرياضة دائماً ما جعلته يبدو نشيطاً وقوياً وحتى حين فارق الحياة في سبعينيات العمر، تفاجأ الكل بأن مجرد دخوله الطارئ للمشفى نتيجة وعكة صحية ألمت به ستكون هي النهاية .. نهاية درب الحياة... هل أحب هذا الدرب كثيراً ...؟!

من برج الراين، تثير فينا المدينة الحيرة والتساؤلات أكثر، تتفرس وجه البيوت والجسور والمعالم، من علو شامخ نترحم على العابرين فيها، لذكرياتهم، نعود إليها كأبناء لها بمنطق يغاير رأي الأجداد وحكمتهم، هم الذين عاشوا فيها كمحطة مؤقتة لا مستقراً، دائماً ما استهوتهم بساتين الزيتون والبلاد المتواضعة بجمالها، متطرفة بتاريخها وملاحمها.

 

وداعاً جدي ... يا أبا الخير،،

نلتقي قريباً يا دوسلدورف .

وسنبقى نسألك .. هل كان جدنا دوسلدورفيا ً ....؟!

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017