الرئيسية / مقالات
ذلك المحامي الذي يقف على رأسه بقلم عيسى قراقع
تاريخ النشر: الثلاثاء 08/07/2014 10:02
ذلك المحامي الذي يقف على رأسه  بقلم عيسى قراقع
ذلك المحامي الذي يقف على رأسه بقلم عيسى قراقع

 في قاعة محكمة عوفر العسكرية استمع إلى القاضي الذي أعاد ما تبقى من الأحكام السابقة على محرري صفقة شاليط بعد أن تم إعادة اعتقالهم، وعندما سأل القاضي عن المسوغات القانونية لذلك أجابه بأنه قرار سياسي، فرد عليه : بأننا موجودين في قاعة محكمة وليس في الكنيست الإسرائيلي، فقال القاضي: هناك قرار من لجنة عسكرية شكلت بهذا الخصوص، فرد عليه : أذكرك أننا في قاعة محكمة وليس في غرفة عمليات عسكرية.

 

المحامي جواد بولس بعد ثلاثين عاما وأكثر في العمل في أروقة المحاكم العسكرية الإسرائيلية قرر أن يقف على رأسه في مواجهة قرارات هذه المحاكم المقلوبة قانونيا وأخلاقيا ومهنيا، وبعد أن وصل إلى قناعة أن هذه المحاكم تمثل الساحة الخلفية لدولة إسرائيل وتعتبر العمود الفقري لجهاز سلطة الاحتلال المستمر في الأراضي المحتلة.

 

المحامي بولس يدخل إلى تلك المحاكم العسكرية المحاطة بأسوار القواعد العسكرية والتي تعمل ومنذ بداية الاحتلال تحت جنح  ظلام دامس، لا يتواجد الإعلاميون ومراسلو الصحف في قاعاتها، ولا يقدمون تقارير حول ما يحدث هناك، ولا تثير الأحكام الصادرة في هذا المحاكم نقاشا أو جدلا جماهيريا داخل إسرائيل.

 

يقول بولس: المجتمع الإسرائيلي مجتمع عسكرتاري، فلم اسمع المجتمع القضائي والأكاديمي والمدني يتدخل فيما يحدث داخل المحاكم العسكرية، هناك صمت مخيف من القانونيين الإسرائيليين على سلسلة من التشريعات والأوامر العسكرية المخالفة لأبسط قواعد القانون الدولي.

 

هذا صمت مخجل من رجال القانون في إسرائيل التي يتواجد فيها 50 ألف محامي فشلوا في حماية صورة القانون، وجزء كبير منهم منصاعون بشكل أو بآخر لتعليمات المؤسسة العسكرية، وكأن جهاز القانون في إسرائيل مجند ومطوع وشريك في فساد السلطة القضائية في إسرائيل.

 

 

جواد بولس رأى ربع الشعب الفلسطيني يحاكم في المحاكم العسكرية الإسرائيلية، وقد مر عنها جميع فئات الشعب كبيرا وصغيرا، رجلا وامرأة، فلا يوجد بيت فلسطيني أو أسرة بعيدة عن أجواء هذه المحاكم.

 

الشعب الفلسطيني يعرف أسماء كل السجون والمعسكرات ابتداء من صرفند حتى السجن السري رقم( 1391)، ويعرف أسماء المحققين والسجانين وعاداتهم وأحابيلهم وأرقام الزنازين والغرف، ويعرف كيف استشهد قاسم ابو عكر في المسكوبية عام 1969، وعلي الجعفري في إضراب نفحة عام 1980، ذاكرته تضج بالموت والحياة والقيود وحفلات القمع، وعندما يحاول النسيان يحترق الأسير محمد الأشقر في خيام النقب، وعندما يمد يده للسلام يعود الأسير ميسرة ابو حمدية مسمما بالسرطان، وعندما يخرج فجرا للصلاة يجد الدبابات الإسرائيلية تحاصر الآذان وإحدى المنازل وهي تبحث عن صيد ثمين قبل شروق الشمس.

 

جواد بولس يقف على رأسه لأنه لم يسمع صوت البراءة كثيرا في قاعات المحاكم العسكرية الإسرائيلية عندما تكون البراءة احد الشروط الأساسية لقضاء عادل، بل أن الإدانات تصل إلى 99.7% للمعتقلين الذين يمثلون أمام هذه المحاكم، وأكثر من ذلك تتحول المحاكم إلى جباية أموال من الأسرى وعائلاتهم من خلال فرض الغرامات الباهظة على كل أسير يصل قاعة المحكمة.

 

أقف على رأسي لأن محاكمة طفل قاصر لا تستغرق سوى ثلاث دقائق وأربع ثوان فقط، والقاضي ليس من ينطق بالحكم وإنما رئيس جهاز الشاباك أو المستوى السياسي، وعندما أقوم بالاحتجاج على نظام قضائي غير عادل يصاب القاضي الذي يرتدي بدلته العسكرية بالاستفزاز ويكاد يشهر مسدسه في وجهي.

 

لم يستطع بولس تبرئة الطفل محمد كوازبة 15 عاما الذي تعرض للتعذيب الشديد والضرب خلال اعتقاله، شبحوه في البرد وبطحوه أرضا ودعسوا على رأسه وأخذ الجنود يمشون على بطنه وهو يصرخ ويتألم دون مغيث، ولم يستطع بولس إقناع القاضي أن الطفل محمود صباح 16 عاما تعرض لنهش الكلاب البوليسية خلال الاعتقال  وانتزعت اعترافات منه بالقوة والرعب.

 

القاصر عاطف جردات 16 سنة تعرض للتعذيب بواسطة الصعقات الكهربائية ، ومع كل صعقة ينتفض جسمه ويقع على الأرض، واستمرت الصعقات إلى أن فقد الوعي، ولكن القاضي المستمع إلى هذه الشهادة اشتعل وعيه وهو يصدر حكما قاسيا على طفل تكهرب في ليلة معتمة.

 

القاصرون هم بالغون في مفاهيم محاكم الاحتلال ولا حصانة لهم كما قال وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، فكل طفل فلسطيني إرهابي محتمل، لهذا أغلق بولس نصوص اتفاقية حقوق الطفل الدولية بعد أن رأى موادها تتبخر في صدى القرارات العسكرية بالمحكمة وقد  تحولت إلى أغلال تقيد أيدي طفل يحلم بالمدرسة ويكره الجدار والمستوطنين.

 

إسرائيل استخدمت حالة الضحية لتبرير التسبب بالظلم للآخرين، ينتابها دائما شعور بالخطر، بوقوع حرب، يزعجها الحجر والولد والشجر والنشيد وأحلام الفلسطينيين، وجاءت المحاكم لشرعنة ممارسات الاحتلال وتكريس هذا الاحتلال إلى درجة القضاء على أي شعور بالذنب تجاه الضحايا.

 

جواد بولس يقف على رأسه خلال محاكمات الاسرى الإداريين، لا تهمة ولا لائحة اتهام، يبرز القاضي العسكري ملفا سريا أعده الشاباك، لاحق للدفاع للمحامي ولا للأسير أمام هذا الملف المكتوم، لا أدلة للفحص ولا بينات ولا فائدة من الالتماسات إلى محكمة العدل العليا التي لم تعد أكثر من ختم مطاطي يصادق على قرارات المحاكم العسكرية وليس رقيبا عليها.

 

جدد الاعتقال الإداري لعبد الرازق فراج عشرات المرات، تجديد روتيني وسهل وبديل عن الإجراء الجنائي، كأنه حكم مؤبد بالتقسيط، ولا يعرف المحامي جواد يوما استقر فيه هذا الأسير مع أسرته ربما لأن هيئته تشبه مخيم الجلزون، وفي خطواته حنين للعودة، وفي قلمه ما يوجع قلق الهوية في المجتمع الإسرائيلي.

 

إسرائيل الدولة الوحيدة التي تقوم باعتقالات تسميها إدارية ضد الفلسطينيين وتجري بحقهم محاكمات صورية، ومن بين كل 100 معتقل فلسطيني هناك ما يتراوح ما بين 5-7 أسرى إداريين يتم احتجازهم دون أن يحظوا بمحاكمة عادلة.

 

قرأ بولس نصا من مذكرات الجنرال الإسرائيلي "موسى ديان" عندما اعتقلته سلطات الانتداب البريطاني، وأغلقت أبواب ذلك السجن وراءه، حيث الرطوبة، والضرب، والتعذيب وارتفاع صوت النضال اليهودي في ذلك الوقت ضد الاعتقال الإداري غير القانوني، ولأن القاضي مغسول الدماغ، قرر تجديد الاعتقال الإداري للمرة الثالثة للأسير أيمن طبيش ردا على استدعاء التاريخ القريب الموسوم بالنكبة والشهود.

 

جواد بولس يقف على رأسه لأنه عجز عن إثبات وجود تعذيب شديد اشتكى منه ذلك الأسير في معتقل المسكوبية: شبحوه وضربوه وعصروه وهددوه وشتموه ودعسوا عليه وتحرشوا به جنسيا وحشروه في زنازين قذرة، أطفأوا الشمس في عينيه وأجبروه على شرب البول والاعتراف، مدعيا القاضي أن محكمة العدل العليا الإسرائيلية رفضت يوم 6 شباط عام 2013 طلبا لمؤسسات حقوق الإنسان إصدار قرار يلزم الشاباك بتوثيق التحقيقات الأمنية التي يجريها مع المعتقلين توثيقا صوتيا و مصورا تحت حجة أن التوثيق لا يسري على المخالفات الأمنية.

 

مسؤولو الشاباك يدعون أن الكنيست أجاز لهم ذلك بما يسميه (أمر الساعة) الذي يعفيهم من توثيق التعذيب، فسقطت 700 شكوى ضد أعمال تعذيب قدمتها المؤسسات الحقوقية  للمحكمة العليا منذ عام 1992، لم يحقق في أي واحدة منها، ولم يقدم أي محقق للمحاكمة لأنه يحظى بحصانة القانون في إسرائيل.

 

وعندما ابرز بولس نتائج  التشريح الطبي للشهيد الأسير عرفات جرادات الذي قتل خلال التحقيق معه في معتقل مجدو يوم  23/2/2013 رد عليه القاضي بتصريح لوزير الاقتصاد الإسرائيلي " نفتالي بنيت" (يجب علينا العمل على قتل الاسرى الفلسطينيين داخل السجن).

 

بولس يقف على رأسه أمام جرائم الحرب في القضاء الإسرائيلي والتي يعتبرها جرائم عادية وبسيطة ومشروعة بذريعة الخطر الأمني على دولة إسرائيل، وأنه لا مكانة لقرارات الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف واتفاقية مناهضة التعذيب في هذه المحاكم، يكرهون الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس الصليب الأحمر الدولي، ويكرهون بيتسيلم والامنستي، ولا يسمعون سوى هاجس الخوف وفتاوي ملوك الحاخاميين الذين يدعون إلى إقامة معسكرات إبادة للفلسطينيين أو خنقهم بالغاز.

 

يدخل بولس مناورات حربية في قاعات محاكم الاحتلال، الصفقات، المساومات، الغرامات، الخيارات الصعبة بين الإبعاد أو السجن، المحظورات الأمنية على لقاء المحامين مع الاسرى، وربما عليه أن يرتدي سترة واقية في مواجهة منظومة قوانين و أوامر عسكرية كفيلة أن تشعل حربا عالمية.

 

تساءل جواد بولس هل يعرف المجتمع الإسرائيلي التناقض بين محاولته العيش في دولة ذات سيادة وقانون وديمقراطية ومساواة وبين وجود أيديولوجية تقف وراء سياسة الاحتلال المستمرة تبرز بوضوح في قاعات المحاكم العسكرية.

 

حكمت المحكمة العسكرية الإسرائيلية على الأسير المريض رياض العمور بالسجن المؤبد 11 مرة بتهمة قتل جنود إسرائيليين بينما حكمت ذات المحكمة على الإسرائيليين داني ايزمن وميخائيل هليل وفالي فوكس الذين قتلوا عام 1985 السائق الفلسطيني خميس تيتنجي بالحكم المؤبد وأفرج عنهم بعد 7 سنوات بعفو رئاسي، بينما ظل رياض العمور يتقلب في مؤبده ومرضه في مستشفى الرملة ينتظر موتا بلا وجع يوقف صرخات القلب.

 

بولس يقف على رأسه أمام التمييز العنصري في القضاء الإسرائيلي، هناك فرق بين دم ودم، بين حكم وحكم آخر، هنا شعب الله المختار وهناك شعب الاغيار، لهذا أطلقوا سراح "أيلان غودمان" الذي قتل المصلين في الأقصى وجرح العشرات بعد 15 سنة من حكمه، وبقي كريم يونس في ثوب الإعدام منذ اثنين وثلاثين عاما.

 

يتفحص بولس المنظومة القيمية والسلوكية لجيش الاحتلال وهو يرافع عن طفل من مخيم جنين استخدمه الجنود درعا بشريا خلال اقتحام المخيم، فيكتشف أنها تسمح للجنود باستخدام السكان المدنيين دروعا بشرية، وأن الجيش الإسرائيلي حسب تلك المنظومة هو الجيش الوحيد في العالم الذي تظهر في شيفرته الأخلاقية قيمة حياة الإنسان أيا كان، لهذا أصيب الطفل بجروح بالغة واحترق مخيم جنين بالقنابل، وعندها صدق بولس ما قاله أحد الضباط الإسرائيليين أن منظومة السلوك في إسرائيل تصنع وحشا.

 

يستقبل بولس أسرى قادمين من السجون إلى قاعات المحاكم عبر بوسطات حديدية مغلقة، يصلون منهكين ومضروبين ومتعبين، حيث تستغرق الرحلة 8 ساعات متواصلة وتحت رحمة قوات ما يسمى النحشون، سقطت الاسيرة رنا ابو كويك مريضة ومنهارة في قاعة المحكمة، الكلبشات في يديها وقدميها، ملا بسها ممزقة، عيناها تفيضان بالفزع،جسدها يرتعش، أولادها يبكون من وراء الأسلاك البعيدة.

 

يقف بولس على رأسه بعد أن قرر القاضي عدم المسؤولية بعلاج الأسير المقعد والجريح والأعمى والأطرش محمد براش وتركيب طرف صناعية لقدمه المبتورة، مدعيا أن العلاج يجب أن يكون على نفقة الأسير نفسه، وظلت قدم محمد براش المبتورة تسيل دما في قاعة المحكمة، في حين بترت قدم الأسير ناهض الأقرع وأرسلت إلى تراب مقبرة مدينة البيرة وحيدة يتيمة.

 

بولس يدعو إلى وقف المشاركة في مسرحيات هزيلة تسمى المحاكم العسكرية الإسرائيلية، ويدعو الجميع رفض الوقوف على رؤوسهم وأخذ العبرة مما فعلته المحامية الإسرائيلية القديرة فيليتسيا لانغر عندما أعلنت أن المحاكم العسكرية الصورية مهمتها تكريس الاحتلال و تتجاوز كل قانون، مما يحول عمل المحامي إلى نوع من العذاب، وقررت لانغر مغادرة قاعات المحاكم ولم تعد.

 

أيها القاضي في المحكمة العسكرية:

لا عدالة في زمن الاحتلال

 هنا جلاد ... وهناك ضحية

كلما تحرر المقتول من دمه

رآك تحشو بندقية 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017