الرئيسية / منوعات
رحيل فاروق الفيشاوي: الابتسامة الأخيرة
تاريخ النشر: الجمعة 26/07/2019 11:16
رحيل فاروق الفيشاوي: الابتسامة الأخيرة
رحيل فاروق الفيشاوي: الابتسامة الأخيرة
نديم جرجوره



إحدى أجمل اللحظات الأخيرة في السيرة الحياتية لفاروق الفيشاوي، الراحل صباح الخميس 25 يوليو/ تموز 2019، تكمن في كيفية إعلانه ـ أمام جمهور الدورة الـ34 (3 ـ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) لـ"مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسّط" ـ عن إصابته بمرض سرطانيّ. فهو، بوقوفه على خشبة المسرح للردّ على تحية الجمهور له في تكريمه، يُعلن إصابته بالمرض، متخذًا من السخرية أداة بوح ومواجهة. وهو، في سخريته من المرض نفسه، يكشف صلابة موقفٍ، تُكلّلها ابتسامة تقول أكثر من الكلام كلّه، ويصنعها شغف التحدّي الأقوى من كلّ خيبة وانكسار.
في تلك اللحظة، يقول فاروق الفيشاوي (1952 ـ 2019) ما يعكس رغبة حقيقية في قهر المرض: "سأتعامل معه على أنّه صداع، وبالعزيمة والإصرار سأنتصر عليه". هذا ليس عابرًا. هذا نمط تفكير ومواجهة، وإنْ يكن المخفيّ في ذات الفنان مختلفًا أو متناقضًا، فالمرض قاسٍ وبشع، ومصير المُصابين به موتٌ، وإنْ بعد حين. هذا ليس عاديًا. يكفي أن يمتلك الفيشاوي جرأة بوح وقول وسخرية، كي يكون الأجمل في لحظة خرابٍ ذاتيّ، لن يشعر بوطأته القاتلة غيره.
سيرة حياتية تنتهي بغلبة المرض السرطانيّ، بعد سنين من الاشتغال والعيش في أضواءِ فنّ، تتطلّب نجوميّته البقاء غالبًا في واجهة المشهد. سيرة حياتية مفعمة بعملٍ معروف لدى مشاهدين كثيرين، وبحياة خاصّة تنكشف، بين حينٍ وآخر، أمام الملأ، والملأ يتلصّص فهو محتاج إلى معرفة خفايا، والصحافة الفنية حاضرةٌ لكشف هذا البعض، والنجم موافق غالبًا، فالتواصل مع الجمهور ضروري، والجمهور يريد أيضًا ما هو غير الفن والعمل والاشتغالات.
سيرة حياتية تميل إلى السينما من دون فراق مع الشاشة الصغيرة، وتذهب إلى المسرح والبرامج الإذاعية والأوبريت كمتنفّس فنّي مختلف، فيغرف فاروق الفيشاوي، من التمرين فيها كلّها، شيئًا من تحسين أداء ونبرة وملمح. هذا دأب فنان يريد أن يجعل كلّ فنّ تمثيلي دربًا إلى مزيدٍ من الاكتشافات، وإنْ يفشل أحيانًا. لكن الفنّ مهنة وعمل ووظيفة أيضًا، يحاول الفيشاوي أن يبرع في حِرفيته فيها، طامحًا ـ وإنْ في مراحل قديمة على الأقلّ ـ إلى تمكين ذاته من الفعل الأدائيّ، برغبة تطويره. لذا، تُبيّن أفلامه ذاك الارتباك المهنيّ والفنّي: ففي محطّات عديدة، يُشارك الفيشاوي في نتاجات سينمائية عادية، يمنح أدواره فيها بعض ما يمتلكه من معرفة تمثيلية وحرفية مهنيّة؛ وفي محطات أخرى، يتألّق في اكتشاف جانبٍ واحد على الأقلّ من كيفية تخطّي الذات، من أجل دور وشخصية ونصّ، بل من أجل العمل برمّته.
لائحة الأعمال طويلة. التنويع حاضرٌ. هذا وحده كافٍ لإعادة اكتشاف مسارٍ مهنيّ، تتداخل فيه خصوصية الحياة اليومية بضغط العمل والمهنة. فهو زوج الممثلتين سميّة الألفي وسهير رمزي (علمًا أنّ آخر زيجاته تتمثّل بارتباطه بنورهان، من خارج الوسط الفني، كما قيل مؤخّرًا)، ووالد الممثل أحمد الفيشاوي (له عمر أيضًا)، وأحمد مدعوٌّ ـ بأفلام عديدة له ـ إلى إعادة حيوية أدائية وتجديدية في جيل شبابي من الممثلين المصريين. فضائح حياتية تنكشف بين حين وآخر، وبعض أسباب الكشف منبثقة من نزاعات لا علاقة لها بالفنّ وصناعة الأفلام، فهي نتاج مشادّات وخلافات وسوء نيّة.

بعيدًا عن هذا، يُساهم فاروق الفيشاوي في حركة سينمائية تنشأ في ثمانينيات القرن الـ20 وتسعينياته تحديدًا، من دون التوقّف عن العمل حتى اللحظات الأخيرة، والتوقّف ناتجٌ من شدّة المرض عليه. وذلك بمشاركته في أفلامٍ تتناول أحوال اجتماع وتاريخ وبيئات مصرية، في محاولة لإعادة صوغ المشهد المحليّ، ارتكازًا على وقائع أو حكاياتٍ يُمكن أن تكون واقعية. يدخل عالم المخابرات والقصور الملكية والصراع مع إسرائيل، من دون التغاضي عن كوارث اليوميّ في بلده، كالمخدرات والدعارة وخطف الأطفال وبيع الأعضاء والإرهاب، والعجز الجنسي أيضًا، وتأثيراته ونتائجه في الحبّ والعلاقات الريفية والمدينية.
للرومانسيّة والفانتازيا حضورٌ في بعض أفلامه. مشاركته مع نادية الجندي ونبيلة عبيد وعادل إمام وسعيد صالح مثلًا اختبارٌ له، تمامًا كاشتغاله مع هنري بركات ونادر جلال وعلي عبد الخالق وسمير سيف وحسام الدين مصطفى وأشرف فهمي وغيرهم. تنويعات في أساليب تمثيل وإخراج، تحتاج إلى إعادة قراءة نقدية تُفكِّك هذا التوهان الذي يُعانيه الفيشاوي غالبًا، بين رغبة دفينة في الخروج من أدوارٍ تُسانِد "الأبطال" وتتماهى بهم وتجتهد لبلوغ مراتبهم، من دون أن تكون أدوارًا ثانية بالمفهوم التقني والنقدي؛ وسعي إلى بطولة مطلقة، "تتعطّل" أمام سطوة ممثلين آخرين، يبدون وكأنّهم مولودون لتلك البطولات السينمائية المطلقة.
هذا ليس انتقاصًا من مكانةٍ تليق بفاروق الفيشاوي، وتبقى له، بل محاولة انتباه إلى الحيّز التمثيليّ الخاص به، المتمثّل بتلك المسافة، غير المتمكّن من الخروج عليها. فهو أبعد من أن يكون "ممثّل دور ثان"، فلهذا الدور أربابه وبعضهم يخسر موقعه فيه لانهماكه في تمثيل يتكرّر شكله ومواصفاته وروتينه وبهتانه. هو أبعد من أن يكون هكذا، لأنّه يقترب إلى دور أول، من دون بلوغه كلّيًا، فتُلبّي أدواره تلك حاجة الأدوار الأولى إليها كي يكتمل حضورها.
يرحل فاروق الفيشاوي بسبب مرضٍ مُنهكٍ وضاغط. لائحة أفلامه وأعماله الأخرى تحتاج إلى غربلة نقدية، فهي جزء من صناعة مصرية لها حضور عربيّ. يرحل الفيشاوي، تاركًا ابتسامته الأخيرة على خشبة مسرح مهرجان الإسكندرية، كي تقول الحبّ كلّه في ثوانٍ قليلة.
 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017