في الشهادة المصوّرة للحاجة عايشة جاروشة، من مخيم بلاطة، التي أنجزها مركز يافا الثقافي، مؤخرا، تُكرر الحاجة عِبارة “طار عقلهم فينا”، وهذا وهي تتَذكُر استخدام أهالي قريتها قاقون المحتلة العام 1948، لمهارتهم في الزراعة للعمل بعد أن أصبحوا لاجئين، سواء في الرمثا أو الضفة الغربية. والواقع أنّ الحاجة “تُطيّر العقل” مجدداً، بسبب براعتها. تسلسل عرضها للقصة، تعابير وجهها، الانتقال من الضحك وحدود القهقهة إلى مشارف البُكاء، من الفخر إلى الاستياء فالفخر.
بتلقائية وعفوية غير مقصودة، تبدو مثل عالمة أنثروبولوحيا، تلاحق معاني الكلمات، وعادات الناس. تخبرك عن موقع القرية في محافظة طولكرم، “غرب سكة القطار”، وتخبرك: كانوا يسمون القطار (ترين)، وكأنها تلاحظ اختفاء الاسم الأجنبي لدى الجيل الجديد.
كأنه عرض مسرحي. تخبرك أنّ قريتها قريبة من قرية شويكة، “تُشعِل السيجارة في قاقون فتطفئها في شويكة”. مجرد استخدامها هذا التشبيه، يجعلها، تخبرك، وتخبر المتحلقين حولها، كيف أن الاحتلال والجدار جعلها بعيدة عن معرفة الشبان. فقرية شويكة احتلت العام 1967، لذلك يعرفها السامعون من حولها. أما قاقون، المُجاورة، فربما بات على بُعد 71 عاماً، هي عمر النكبة.
كأنها تكشف كيف تشكلت ذاكرة الفلسطينيين، بعد العام 1948، حتى صاروا يرون بلدهم كأنّه “الفردوس المفقود”. فالإنسان وهو في قريته قد لا يرى جمالها، ومن يعيش نعيما ما، قد لا يشعر به، إلا إذا ذهب. تخبرك أنّها كنت تقف في فرن “علي”، في مخيم بلاطة، قرب نابلس، عندما سألها أحدهم (ربما علي)، عن قريتها، فأخبرته إنّها قرية مثل غيرها، فصرخت سيدة لاجئة من قرية مِسكة (القريبة من قاقون)، ماذا تقولين؟ “انتو بلدكم أكبر بلد في الساحل”…
كأنّ صراخ السيدة، لحظة تحول، فصارت تتأمل قريتها، ومعانيها.
الكاميرا التي تُصوّرها بالكاد تلتقط خلفية المشهد في ساحة البيت الذي بنته العائلة قرب المخيم؛ زهور حمراء وشجر أخضر، وجدار أبيض، والسيدة بغطاء شعرها الأبيض، وثوبها الأزرق، تخبرك أنّ “البلد”، وتقصد القرية، (على عادة أهل فلسطين تسمية قريتهم البلد)، تخبرك عن سور من عشرات الدونمات من شجر الصبر حول “البلد” كأنّه جدار طبيعي. وخمسة وعشرين بيارة حمضيات، والمدرسة غرب القرية “يدرّس اليهود فيها أبناءهم حتى اليوم”، محاطة بأشجار السرو والكينيا، ما جعل الحاجة عندما عادت للقرية، في زيارةٍ، قبل أعوام، وكانت صائمة، توجه أنظارها إلى السماء، وهي تشم رائحة الشجر، وأقسَمت لِربّها، أنّ “الرائحة من الجنة”.
كأنها تخبرك عمّا يسميه الأكاديميون، “أنماط حل النزاعات البديلة”، فتخبرك عن كبير البلد، “مدحت أبو هنطش”، وتستخدم كلمات من قلب التراث، أنهم كانوا يأتونه لحل مشكلات “أكل أموال الأرامل”، و”أكل أموال الأيتام”.
تُعرّج على التركيبة الطبقية، فتخبرك أن العمل كان منتشرا في القرية، والناس تأتي من خارجها للعمل في بياراتها ومزارعها. جميعهم في القرية يرتدون أجمل الملابس، فلا تعرف الغني من الفقير. ثم يتحول حديثها إلى كوميديا سوداء؛ كيف أصبح الوجهاء في المخيمات يرقعون ملابسهم برقاع من غير ألوانها، فأصبح حالهم مضحكا مُبكيا.
يغطي هذا المقال نحو أربع دقائق من حديث الحاجة عائشة الممتد 22 دقيقة، والذي يصلح لطلاب الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع والمسرح والأدب، ليدرسوها.
بعد ذكريات “الفردوس المفقود”، تتذكر المعارك والمجازر والمؤامرات، التي أخرجتهم من ديارهم، تخبرك قصة المدفعية العراقية، ولجندي بكى بسبب أداء مدفعيته ومن أوامر قيادته. ثم تتقدم لذكريات التكيف مع النكبة؛ من العمل في الفلاحة، عن شراكتهم وطيب علاقتهم مع أهالي مدينة الرمثا في الأردن، قبل عودتهم للضفة الغربية. عن بناء البيت الجديد، وذهاب الأولاد للدراسة فبنوا أنفسهم، تخبرك في المرحلة الثالثة عن البندقية/ المقاومة، وأنها تنتظر العودة.
الحاجة عائشة هي والدة المناضل، الكادر السياسي، والميداني، منذ الانتفاضة الاولى وحتى الآن، تيسير نصرالله، وتخبرك بزهو مستتر بِغلالة، كيف كانت تعرف بأمر البندقية التي جاء الاحتلال وأخذها يوم اعتقل تيسير، وكيف رواغت الضابط والجنود.
هناك آلاف مثل هذا التسجيل، سجلها فلسطينيون عن ماضيهم، أهميته أنّه يجمع المراحل، يوثق الصمود، ويبقي البوصلة نحو العودة والتحرير، ولكن الحاجة عائشة قدمته ببراعة، تلقائية، هائلة.
شكراً مركز يافا الثقافي.
د.أحمد جميل عزم
الغد