الرئيسية / الأخبار / فلسطين
عبد اللطيف: "دُمدم" وملابس ومدرسة...
تاريخ النشر: الثلاثاء 10/09/2019 06:34
عبد اللطيف: "دُمدم" وملابس ومدرسة...
عبد اللطيف: "دُمدم" وملابس ومدرسة...

طوباس: استردت الحلقة (50) من سلسلة "كواكب لا تغيب" لوزارة الإعلام حكاية الشهيد عبد اللطيف قاسم أبو عرة، الذي اختطف رصاص الاحتلال أحلامه، حين أصابه في ظهره واخترق جسده، ظهيرة التاسع من أيلول 1989، بجوار منزله في بلدة عقابا، وسجله في قائمة شهداء انتفاضة الحجارة.

وقصت والدته السبعينية، أديبة حامد يونس، قبل أشهر من رحيلها العام الماضي: استشهد ابني في يوم خميس والدتي حليمة، وحين كنا في بيت العزاء بمنزل والدي، سمعت صوت إطلاق نار، فقلت للنساء (استشهد ابني عبد اللطيف)، وشعرت بشيء غريب أصاب صدري، وأسرعت دون وعي إلى حقل قريب، ووجدته بجانب شجرة لوز والدم ينزف منه، وأمعاؤه خرجت من مكانها، فاقتربت منه، لكن الجنود أطلقوا قنبلة غاز في وجهي، وبعدها اختطف الشباب جثمانه، ونقلوه لمستشفى جنين ولحقت به، وجهزت نفسي للصلاة، وبدأت أدعو الله أن يرحمه، دون نواح.

ووفق الأم، فقد خرجت جنازة كبيرة لعبد اللطيف، ابن الرابعة عشرة، وراحت تسأل النساء اللواتي لا يعرفنها عن أمه، واستغربن أنها صابرة، وتدعو الله.

مزاح

وقالت إن أخر حوار جمعها بصغيرها الشهيد، كان في صباح اليوم نفسه، حين كان يمازح أخته الصغيرة خولة، وطلب منها تسخين الماء ليغسل رأسه ويذهب إلى المدرسة، بعدها تحجج بطلبات أخرى، فطلبت الأم من أخيه الكبير محمد التدخل، وإجباره على الالتحاق بصفه، دون أن يضربه. وبحسب الرواية: فقد بدأ أولادها يناولون عبد اللطيف ملابسه من الخزانة، ويعجبون بجمالها عليه، ثم خرج إلى المدرسة مع أخوته، وكان في الصف الأول الإعدادي (السابع اليوم)، ووقت الظهيرة طلب من شقيقه فرج العودة من الطريق القصيرة للبيت، أما هو فاختار الطويلة بجانب الشارع الرئيس، ومر من جانب بيت خاله خالد، الذي كان يعمل في تنظيف البصل، ثم لحقه الجنود، وأطلقوا رصاصة دمدم على ظهره.

مما قصته الأم: أخبرني زوجي لاحقًا، الذي كان يعمل في قصارة بيت بعيد لعائلة أبو فواز في أخر البلدة، أنه ألقى عدة العمل حين سمع إطلاق النار، وأخبر العمال بأن مكروها أصاب صغيره، وأخذ يبحث عن مكانه، لكنهم استغربوا، وسألوه: هل تعلم بالغيب؟

"خويّة"

ووصفت الأم، قبل مماتها ابنها على طريقها، فقالت: طويل، وأبيض، وشعره أشقر، وبه شامة على وجهه، وفيه كل الطباع الجميلة، والنكت، والشقاوة، والحنان. وقبل أيام من رحيله، كانت والدتي تنازع الموت، وأذهب إليها من الصباح وحتى الليل، وقبل أن أخرج، طلب أن أجهز له طعام (الخوية)، وحين أنهيتها، أخبرني إنه لا يريد أن يأكل، وخاف عليها أن تظل في الجوع طوال النهار، وأقسم أنها لن يدخل أي لقمة إلى جوفه، إذا لم تأكل معه.

احتفظت الحاجة أديبة ببلوزة عبد اللطيف الزرقاء المخططة بالأبيض والأحمر، والموسومة بكلمة إنجليزية، ولا يزال دمه وآثار رصاصة الاحتلال ورائحته شهودًا على قتله بدم بارد من الخلف، ومن مسافة قصيرة. وكانت تستحضر الأم زي ابنها كثيراً، فتشم رائحته، وتجد فيها العطر، وتدعو الله أن يرحمه، وتتحسر عليه، وتزداد رعشة يديها، وبعد الممات نُقلت الملابس إلى ابنها الأكبر.

ووالت: كان ابني يرفض التصوير، ويضع يديه على وجهه، ويطلب من أخوته أن يبعدوا الكاميرا عنه، وتعود أحر صورة له قبل عام وأكثر من رحيله عنا. ولا أنسى كيف كان يخفي ما يصنع من "مقليعيات" (وسائل من الخيوط لإلقاء الحجارة) على سطح المنزل خوفًا من والده.

وأعادت عائلة ابو عرة إطلاق اسم شهيدها على 4 من الأبناء وأبناء العمومة، لكن الأم أكدت في حياتها أن أحدًا منهم لا يشبه عبد اللطيف، سوى ابن أخيه قصي، الذي يذكرها بحركات صغيرها وضحكاته، وحلت نيابة عنها أوجاع القلب ورعشة الأيدي.

قمر

وزادت: زارني عبد اللطيف في المنام مرة بعد وقت قصير من غيابه، ويومها رأيته يقف داخل صندوق زجاجي بجانب القمر، بسهل الكفير القريب، ويبتسم. وفي حلم ثانٍ شاهدته دون أعرفه، فقد تغير شكله.

مما لا ينساه أخوته عن صاحب الترتيب السابع في العائلة، كيف أن عبد اللطيف احترف لعبة البنانير (الجلول)، وكان ماهرًا في صنع المقليعيات، وأغرى أخيهم الصغير فرج بالتدخين في سن مبكر.

رفضت العائلة المطالبة بتعويضات مالية من الاحتلال، مراراً، كما اقترح عليها محامون، ولطالما باحت الأم بأن الناس يتعاملون اليوم ببرودة أعصاب مع الشهداء، حين يرتقون، وقد يكون سبب ذلك كثرة أعدادهم، وتباعد قلوب الناس عن بعضها، ودخول المال.

وروى سفيان شريط ذكرياته بشقيقه، الذي يكبره بأربع سنوات: كنا في إحدى الأيام نرعى الأغنام في منطقة العقبة القريبة، ويومها طلب أن أساعده في البحث عن آثار، فدخل في تجويف صخري، وراح يعطيني حجارة وأتربة ثقيلة، عجزت عن حملها، فوقع حجر على رأسه، وأصابه برضوض، فطلب مني أن أعيد له رأسه دون إصابات؛ لأنه إن مر على جنود الاحتلال، فسيعرفون أنه كان يلقي عليهم الحجارة.

وقال: يكمل اليوم أخي ثلاثين سنة شهادة، ونشعر أنه معنا، فملابسه ودمه ورائحته تسكن بيتنا، وكل ذكرياته تشاركنا تفاصيل حياتنا.

يشار إلى أن وزارة الإعلام، أعادت منذ 2013 كتابة القصص الإنسانية لغالبية شهداء الانتفاضة الحجارة في طوباس، ومخيم الفارعة، وعقابا، وطمون، وتياسير، ونفذت ندوات سردت سيرهم، وسعت لتنظيم متحف مفتوح لمقتنياتهم الشخصية. مثلما سردت سيرة الشهيدتين لينا النابلسي، ومنتهى الحوراني.

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017