القدس العربي
طوال عقود دأبت دولة الاحتلال الإسرائيلي على احتجاز جثامين الفلسطينيين من الشهداء أو الأسرى الذين يقضون نحبهم في المعتقلات والسجون المختلفة، بذرائع معلنة أولها مقايضة الجثامين بأسرى أو جثامين إسرائيلية لدى المقاومة الفلسطينية، وبذرائع مضمرة أشدها خبثاً الضغط على ذوي الشهداء، أو ابتزازهم، أو السعي إلى تحطيم المعنويات العامة وحس الصمود تحت الاحتلال.
والإحصائيات تشير إلى أن دولة الاحتلال تحتفظ بجثامين 304 فلسطينيين وعرب استشهدوا برصاص جيش الاحتلال منذ حرب 1967، سواء في «مقابر الأرقام» الموزعة على مناطق في الجليل الأعلى وطبريا وأريحا، أو في الثلاجات للشهداء حديثي العهد وبعد سنة 2015 بصفة خاصة. وكانت المحكمة العليا الإسرائيلية قد قررت، أواخر العام 2017 وبأغلبية اثنين إلى واحد، عدم جواز الاحتفاظ بالجثامين لغرض المقايضة، وأمهلت الحكومة الإسرائيلية ستة أشهر لاستصدار تشريع من الكنيست يسمح بإجراء معاكس.
لكنّ حكومة بنيامين نتنياهو ماطلت في هذا، وأرسلت ضباط الجيش للاجتماع سراً بالمحكمة بهدف شرح المقتضيات الأمنية التي تبرر الاحتفاظ بالجثامين، وطلبت عقد جلسة أخرى للمحكمة العليا بهيئة جديدة تتألف من سبعة أعضاء. وبالفعل، انعقدت المحكمة مؤخراً وقررت، بأغلبية أربعة إلى ثلاثة، إسباغ الصفة القانونية على إجراءات الحكومة، مناقضة بذلك قرارها السابق في خطوة نادرة للغاية أو هي أصلاً غير واردة إلا إذا أعطى رئيس المحكمة الإذن الصريح بأن يُقبل استئناف ضد قرارات سابقة للمحكمة. ولكن من يحتاج حقاً إلى إذن مثل هذا إذا كان الرئيس الحالي للمحكمة هو القاضية إستير حيوت، التي صوتت لصالح القرار وليس ضده؟
صحيح أن المحكمة العليا الإسرائيلية هي محكمة احتلال في نهاية المطاف، ولا يصح تعليق الآمال عليها أو توهّم أنها يمكن أن تنصف قضية حق فلسطينية في مواجهة دولة الاحتلال ومؤسساتها المختلفة، ولكن من الصحيح أيضاً أن هذه المحكمة كانت إحدى الواجهات التي يستخدمها الكيان الصهيوني في الترويج لخرافة «الديمقراطية الإسرائيلية» بوصفها الوحيدة في الشرق الأوسط. إنما للأقنعة حدود بالطبع ولا مفر من أن تسقط واحداً تلو الآخر في مسائل العدل البسيطة، فكيف بأمر معقد مثل الانحناء أمام إرادة حكومة الاحتلال، وخاصة في سياقات حساسة مثل مواسم الانتخابات؟
وإذْ تنقض المحكمة العليا قراراً سابقاً لها حول الموضوع ذاته، فإنها لا تبرهن فقط على نزوع أشد نحو الدوس أكثر من ذي قبل على القانون الدولي، وانتهاك المبادئ الأبسط في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وامتهان كرامة الجسد الإنساني وحرمة الموت، بل تثبت أيضاً أن الكيان الذي قام على اغتصاب الأرض والحقوق والإجرام بحق البشر والعمران والشجر لن يردعه رادع ولن يتوقف عند حد. وليس عجيباً أن تتكئ المحكمة اليوم على تأويل قرار إداري صدر عن الانتداب البريطاني سنة 1945، أو أن تتذرع رئيسة المحكمة بأن حقوق الإنسان لا تفرد فصلاً للجثامين، أو يميز عضو آخر بين جثامين قطاع غزة وجثامين الضفة الغربية فيجيز لسلطات الاحتلال مقايضة جثمان دون آخر.
ومن المأساوي أن تأتي هذه الجريمة الأخيرة من محكمة تزعم تمثيل كوارث المحرقة وعذابات اليهود، ولكنها اليوم تمنح «الضحية» السابقة تخويلاً قانونياً بالانقلاب إلى جلاد، ليس ضد الأحياء وحدهم بل كذلك ضدّ الجثامين.