القاهرة - العربي الجديد
لا تزال أصداء مقاطع الفيديو التي نشرها المقاول والممثل المصري محمد علي عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" حول فساد الجيش ومشاريعه لمصلحة رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، تتردد بقوة وتعصف بهدوء في أروقة الأجهزة السيادية والأمنية المصرية، حتى بعد الظهور الاستثنائي للسيسي أول من أمس السبت خلال المؤتمر الثامن للشباب، الذي تم تخصيص القسم الأكبر منه للرد المباشر على محمد علي واتهاماته.
وكانت مقاطع الفيديو هذه قد تسببت في انتشار حالة من التململ والغضب واللغط في صفوف الضباط المصريين الشباب، بسبب ما تضمنته من معلومات، وذلك تأكيداً لما كانت "العربي الجديد" قد نشرته مساء الثلاثاء الماضي من أن ظهور السيسي نابعٌ من قراره الشخصي بالخروج للعلن بأسرع وقت ممكن للتحدث عن ملف المشاريع القومية والفساد المالي ومشاريعه الشخصية في الرئاسة لـ"رد الاعتبار للمؤسسة العسكرية"، وهو ما تجلى بالفعل في تركيزه على الإشادة بالجيش والحديث المتكرر عن "أفضاله على مصر" وكونه "المحور الرئيسي للتنمية وتنفيذ سياساته".
لكن الرئيس المصري، الذي وصف الجيش بأنه "مؤسسة مغلقة ويجب الحفاظ على خصوصيتها"، وأنه "لا يسمح في إنه يكون في حدّ مش كويس ويستمر"، يستعد حالياً لاتخاذ إجراءات "عقابية" ضد شخصيات قيادية حالية وسابقة في الجيش وبعض الضباط الذين انتهت خدمتهم وتولوا مواقع إدارية في شركات خاصة أو مملوكة للقوات المسلحة، إذا ثبت تورطهم في وقائع فساد. كذلك سيتم نشر تفاصيل التحقيقات والإدانة إن صدرت داخل الجيش لامتصاص غضب الضباط الأصغر، والبعيدين عن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة وغيرها من الإدارات المتورطة في وقائع الفساد التي روى محمد علي تفاصيلها.
وكشفت مصادر مقربة من دائرة السيسي لـ"العربي الجديد" أنه تمّ تشكيل لجنة تحقيق داخلية بقرارٍ من وزير الدفاع الفريق محمد زكي، وستتم مراجعة ملفات عدد من القيادات الذين يملكون هم وأبناؤهم شركات تتعامل مع القوات المسلحة، وأن القائمة الأوّليّة تضم نحو 20 لواء تتجاوز ثرواتهم 15 مليار جنيه. وأوضحت المصادر أن "تلك الخطوة ليس الهدف منها تقديم هؤلاء إلى محاكمات، ولكن تبييض وجه السيسي باعتباره القائد الأعلى والقيادة العامة للجيش أمام صغار الضباط، ومن المقرر إطلاعهم في ندوات تثقيفية أولاً بأول على النتائج التي ستتوصل إليها اللجنة".
وربطت المصادر بين ما أفصح عنه محمد علي، وبين سوابق في الفساد المالي وتحقيق مكاسب خيالية من وراء الإشراف على أعمال ومشاريع عسكرية، وتتعلق بقيادات عسكرية عليا، على رأسها الفريق أسامة عسكر، القائد السابق للجيش الثالث الميداني، الذي تمّ إبعاده عن منصبه والإعلام بشكل مفاجئ، قبل أن تتم الإطاحة به من المجلس العسكري. وكان عسكر يتمتع بنفوذ كبير داخل المؤسسة العسكرية، فيما سرت أنباء بشأن وضعه تحت الإقامة الجبرية بسبب فساد مالي تجاوزت قيمته ملياري جنيه تحصّل عليها بأشكال غير مشروعة مستغلاً عمله وقيادته للجيش الثالث الميداني. وأكدت مصادر رفيعة المستوى في وقت سابق لـ"العربي الجديد" أن تلك المبالغ تمّ تحصيل بعضها عبر عمليات حفر تفريعة قناة السويس، التي كلفت الدولة نحو 60 مليار جنيه وقتها.
وذكرت المصادر أن خروج محمد علي للكشف عن عمليات الفساد، جدد الحديث عن صراعات كبيرة بين عددٍ من قادة ورؤساء قطاعات داخل القوات المسلحة، بعضها مرتبط بالنشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، وأن الفترة القريبة المقبلة ستشهد الإطاحة من الخدمة بعددٍ من القياديين الحاليين وإحالتهم للتقاعد، من دون اتخاذ إجراءات قانونية بحقهم.
وإلى جانب الجيش، تبدو الاستخبارات العامة على موعدٍ مع قرار وشيك بإحالة عددٍ من ضباط وموظفي الجهاز للمعاش أو العمل الإداري في جهات أخرى، نتيجة تحقيقات جديدة يجريها مدير الجهاز اللواء عباس كامل، ونجل السيسي النافذ في قيادة الجهاز، الضابط محمود، لـ"وجود شكوك في أن يكون محمد علي وبعض الشخصيات الأخرى التي أطلقت مقاطع فيديو مشابهة لم تحظ بانتشار واسع، مدعومين من ضباط داخل الجهاز أو خرجوا منه خلال السنوات القليلة الماضية"، بحسب المصادر.
ومنذ عام 2015، حمل الرئيس المصري على عاتقه مهمة تطهير جهاز الاستخبارات من "فلول رئيسه الأسبق عمر سليمان"، والمشكوك في ولائهم للسيسي شخصياً، وليس للنظام. ومنذ ذلك الحين، صدر 20 قراراً جمهورياً بإحالة أكثر من 250 ضابطاً وموظفاً كبيراً للمعاش أو للعمل الإداري في جهات أخرى، كان من بينهم مسؤولون عن ملفات الحركات الإسلامية وجماعة "الإخوان" والتواصل مع حركة "حماس" والشؤون السودانية والإثيوبية، والذين تمّت الإطاحة بهم في عهد مدير الجهاز السابق خالد فوزي. وكان الأخير قد عيّن في ديسمبر/ كانون الأول 2014، وتمّ عزله في يناير/كانون الثاني 2018 على خلفية الحراك السياسي لكل من رئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق ورئيس الأركان الأسبق سامي عنان، وعجزه عن تحديد حركة وكلاء الاستخبارات الذين يتواصلون مع عنان لدفعه لإعلان ترشحه للرئاسة نكاية في السيسي، بحسب مصادر روت التفاصيل آنذاك لـ"العربي الجديد".
وأشارت المصادر إلى أن دائرة السيسي قلقة من ردّ فعل سلبي داخل جهاز الاستخبارات، وكذا الأمن الوطني، بسبب تعمد الرئيس أن يقول خلال مؤتمر الشباب أول من أمس إنهم "كانوا حيبوسوا إيدي عشان ما أردش"، في إشارة لخروجه للحديث على غير رغبة الأجهزة، حيث اعتبر بعض الضباط القلائل غير المحسوبين على النظام أن العبارة التي كررها السيسي ثلاث مرات تحمل "إهانة" للأجهزة، وتحاول تصويرها وكأنها غير ذات قيمة بالنسبة له، مقابل التفخيم المستمر للجيش ودوره.
ولا يقتصر رد فعل السيسي الغاضب على الجيش والأجهزة السيادية فقط. فبعدما قال خلال جلسة "اسأل الرئيس" في مؤتمر الشباب إنه "سيأخذ حقه" بعدما تعرض للاتهامات والتشويه بمشاركة ونشر المواطنين لمقاطع فيديو محمد علي، قالت مصادر شرطية بالأمن العام لـ"العربي الجديد" إن وزير الداخلية المصري اللواء محمود توفيق عقد اجتماعاً منذ ثلاثة أيام مع قيادات الوزارة بمختلف المحافظات والأمن العام والأمن الوطني والمرور والخدمات، وصدرت تعليمات واضحة بتشديد الخناق على المواطنين خلال الفترة المقبلة، والحرص على "إشعارهم بالتواجد الكثيف والثقيل لقوات الأمن في جميع أنحاء الجمهورية، بهدف التخويف من القيام بأي تحركات أو فعاليات معارضة للسيسي".
وأوضحت المصادر أن هذه التعليمات تمّ تنفيذها منذ الأسبوع الماضي في صور عدة؛ أولها إطلاق حملة اعتقالات جديدة في صفوف الطلاب والمعارضين والمتعاطفين مع جماعة "الإخوان" وتحريك قضايا عاجلة تتهمهم بالترويج لأخبار كاذبة انطلاقاً من حصر الصفحات التي نشرت مقاطع فيديو محمد علي وتحديد أصحابها مع الاكتفاء باستدعاء بعضهم لمقار الأمن الوطني بالمحافظات. كذلك جرى تكثيف دوريات التفتيش الأمني في المناطق الحيوية بالمراكز والمدن الكبرى، وزيادة عدد الكمائن المرورية للتضييق على مستقلي السيارات الخاصة والمعمومية، وتفتيشها من دون مبررات، بغية إرهاب المواطنين وإشعارهم بأنهم تحت الرقابة دائماً.
وأضافت المصادر أنه بسبب هذه التعليمات تمّ إلغاء الإجازات الشهرية لمعظم الضباط في الأمن العام والأمن الوطني، فضلاً عن عودة إلغاء مواعيد الزيارة الدورية في سجون طره، وأسيوط، والوادي الجديد، والقناطر، وجمصة وعدد آخر من السجون الأصغر حجماً بعد عودتها في عيد الأضحى الماضي. وكان تم إلغاؤها سلفاً عقب وفاة الرئيس المعزول محمد مرسي في يونيو/حزيران الماضي، كما أعيد تنظيم مواعيد "الفسحة والتريض" للسجناء خلال الأسبوع الحالي وتقليل مدتها وتواليها، بما يضمن تقليل عدد السجناء في كل حصة، وحرمانهم من دخول الصحف والرسائل.
وفي سياق متصل، أدت ظاهرة محمد علي إلى انفراجة عاجلة لأزمة التعويضات المالية التي كانت الحكومة والهيئة الهندسية تماطلان مع المقاولين والموردين بشأنها بسبب استمرار نشوء فروق مالية في العقود، تعود لتوالي رفع أسعار الطاقة في السوق المحلية منذ تعويم الجنيه المصري في نوفمبر/تشرين الثاني 2016. وكان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي أصدر قراراً بزيادة التعويضات المقررة للأعمال والتوريدات المنجزة لعام 2017 والنصف الأول من 2018، وقال مصدر حكومي إن رئيس الوزراء كلف اللجنة العليا للتعويضات بتحديد نسب تعويض الخسارة عن قرارات زيادة أسعار الطاقة في العامين 2018 و2019.
وكان السيسي ومجلس النواب قد أصدرا القانون 84 لسنة 2017 بإنشاء لجنة عليا للتعويضات تختص بتحديد أسس وضوابط ونسب التعويضات عن قرارات التعويم وزيادة أسعار الطاقة، والتي ترتب عليها الإخلال بالتوازن المالي لعقود المقاولات والتوريدات والخدمات العامة السارية في الفترة من مارس/آذار إلى ديسمبر/كانون الأول 2016 والتي تكون الدولة أو أي من شركاتها أو الأشخاص الاعتبارية العامة طرفاً فيها. وبناء على ذلك، صدرت قرارات متتابعة من مجلس الوزراء بصرف التعويضات لجميع أنواع الأعمال بنسبٍ متفاوتة حسب نسبة تغير أسعار الواردات والصادرات، وسط اعتراضات واحتجاجات واسعة من المقاولين المتعاونين مع الهيئة الهندسية تحديداً، ما أدى آنذاك إلى تعطيل العمل بعددٍ كبير من المشاريع.