بقلم عيسى قراقع
هذه الصورة، هل تفرض عليها يتما وغربة جديدة؟ هل جرب احد ان يضع صرخته المدوية في حنجرة طفلة صغيرة اسمها ميرا؟، كادت ان تختنق، انه كابوس آخر، نظرت حولها، ما كل هؤلاء الناس المجتمعين حولها؟ كل تجمع للناس يعني ان هناك فاجعة، كل صورة على جدار تعني ان صاحب الصورة قد مات، وجه الصغيرة يعج بالدهشة والأسئلة.
ميرا طفلة عمرها سنة وتسعة شهور، سكان قرية سلواد قضاء رام الله، استشهد شقيقها أيمن حامد 17 سنة يوم الجمعة 25/1/2019 بعد ان أطلق جنود الاحتلال النار عليه من مسافة قريبة ودون أي مبرر، أعدموه بين أشجار البلوط واللوز في وادي سلواد، وقع أيمن، تدحرج على ظهره بين الصخور وفوق الأعشاب المبلولة...
صور أيمن الشهيد علقت في كل مكان في البلدة، وكانت شقيقته الصغيرة ميرا تنظر وتتحدث إلى الصورة صباح مساء، تتكلم مع أيمن كانها تستوحش الغياب، تراه كيف وقع في كمين للجيش الإسرائيلي مع زملائه الأطفال، في يده شوكلاته وبذور دوار الشمس ورقائق البطاطا، وكان الطقس باردا والشهيد أيمن بدا يشعل الحطب لغلي الشاي، انطلقت رصاصة اخترقت صدره من اليسار تحت عنقه، الصورة تنتفض الآن، ميرا ترتجف وهي تشاهد زملائه في محاولة لإنقاذه لتزداد زخات الرصاص ويصاب احدهم بجروح، الصورة تتحرك قليلا تنحني لتقبل وجنتي ميرا وتقول: احبك يا أختي الجميلة، افتقدك كثيرا، قالها أيمن قبل ان يصمت فوق الجدار...
ما هذا البكاء والصراخ الآن، ميرا تبكي بشدة، تحدق في صورة أبيها الذي أدى مناسك الحج هذا العام، وقامت العائلة بتعليق صورته استعدادا لاستقباله وتهنئته بعد عودته من الديار الحجازية، اعتقدت ميرا ان كل صورة تعني الموت، فأخذت تبكي، هل أبوها مات أيضا؟ هل قتلوه كما قتلوا شقيقها؟ أخذت الصغيرة تنادي أبي أبي، هرع الناس ومن حولها ليشرحوا لها ان أباها حي، لكن الطفلة دخلت في حالة عصبية، كل جسمها يهتز، الدموع غزيرة، أصابعها تشير إلى الصورة، تبحث عن أبيها، تنظر في كل مكان، لا أريد أبي ان يكون صورة كما صار شقيقي، لم تهدا ميرا ولم تصدق كلام الناس، الصغيرة وقعت على الأرض وهي تقول يا أهلي، يا أبي، يا أمي، يا إخوتي، رجاء لا تموتوا، فكروا فيّ قليلا، لا تتركوني وحدي، ما الذي افعله بعدكم؟ ما الذي افعله بعد الجنازات الأخيرة؟.
لم يعد أخاها أيمن إلى البيت، انتهت صلاة الجمعة، رحل الشتاء حزينا، كان الشهيد أيمن يحب شقيقته كثيرا، يلاعبها ويناغيها ويسافر بها في خيال القصص والحكايات بعيدا بعيدا، تنام على صوته وهي تحتضن الألعاب التي احضرها لها، تحول أيمن إلى صورة، لا صوت له في البيت، تراه في أحلامها، تستيقظ ميرا الصغيرة، قلبها ينشق إلى نصفين: نصف مع الصورة ونصف يفر من النوافذ يجري في شوارع البلدة كحمامة ذبيحة...
ميرا تنظر الى الصورة، تتساءل متى تخرج من روتين الموت!، الناس يتحولون الى "بوستر"، كيف يتقدم عمري وهناك اعمار توقفت وتجمدت في صورة!، خطاي اكبر مني ومن قدمي، الموت حولي يكبر ولا يسمح لي ان اكبر، صوت اطلاق رصاص وقنابل غاز في البلد، تتموج روحي وتتاهب للغرق، طارت فراشاتي مرعوبة الى جسد تحول الى ورق، ميرا تصرخ: ارحموني لا اريد مزيدا من الصور القادرة على تزويد عين الكاميرا بما تحتاج اليه من جثث.
تحت اطار الصورة تلتقي ميرا مع مسؤول منظمة الدفاع عن الاطفال العالمية، قالت له: لا تعرف القتيل الا بعد ان تنظر الى القاتل، لا تعرف عذابات الطفولة وانت تجلس هناك في مكتبك البعيد، لا تعرف الطفولة الا بعد ان يسرقوا من روحك ذاكرة الامومة، حينها اخرج المسؤول عدة صور لاطفال من احدى ملفاته كانه يبحث عن طفل كان فيه خرج منه ونسيه.
ميرا تعرف ان الصورة ترانا، وتعرف ان الصورة مقتولة ترقد فوق دمها، وتعرف ان ألوان الصورة تسيل وتنزف في صدرها، وتعرف ان ما بعد الصورة وجع وضياع للطفولة، لهذا صرخت بأعلى صوتها، هزت السماء، أدهشت الملائكة، لا أريد مزيدا من الصور، ارحموني وارحموا الحيطان إذ تشتاق للأعشاب والزينة، لا تجعلوا من الحيطان قبورا تنام فيها جثث كثيرة.
أي شعب نحن وقد تحولنا إلى صور وجداريات خطت تحتها آلاف الكلمات حول الحسرة والوداع، صور معدومة تركت وراءها أيتاما وأطفالا وعائلات، صور في الشوارع، صور في المدارس، صور في البيوت وفي الحوانيت وعلى مكاتب المؤسسات وأعمدة الكهرباء، صور في النشيد وفي الأغنية وفي الرسومات وعلى المسرح وفي المدرسة.
ميرا تنظر إلى الصورة، كل صورة اما لأسير أو شهيد، للصورة لغة وكلام ونشيد، للصورة ملامح قاسية تشير إلى فراق أو رحيل، ما أكثر الصور المعلقة في بلدة سلواد، أطفال شبان نساء وفتيات، ما أكثر الدم الذي تجلس عليه هذه الصور، صور جريحة، صور صارت توابيت وفي كل صورة وصية، صور تبحث عن زغرودة أخرى لميلاد الحياة من شظية.
ميرا الصغيرة خائفة وهي تسمع أحاديث الكبار، الإعدامات مستمرة، القتل الميداني صار ظاهرة روتينية، الاحتلال يستهدف الصغار، يقتلهم أو يقتل احبائهم، الاحتلال يعتقل الصغار يعذبهم ويدعس على الورد في أحلامهم، ميرا خائفة، لا تستطيع ان تذهب إلى البساتين وتلعب في الواد أو بين الأشجار، كل ليلة هناك مداهمات، هناك مستوطنة، كمائن تصطاد الأطفال، ، ميرا خائفة تنام ولا تنام.
ميرا تنظر إلى الصورة، اختلطت الصور بين عينيها، من هو الحي ومن هو الميت؟ قصص النوم لم تعد تجلب النوم، قصص النوم لم تعد تجلب عروس البحر والسمكة، قصص النوم لم يعد فيها فارسا جميلا فوق الحصان الابيض، قصص النوم اختفى منها بابا نويل وهدايا الميلاد للأطفال، عينا ميرا مفتوحتان على جدار وفوهة بندقية، عينان مفتوحتان على حواجز عسكرية ودماء في الشوارع وجثث ممددة على الرصيف.
ميرا تستيقظ مفزوعة، هناك وحش يضرب باب البيت، جنود مقنعون يقتحمون المنزل بعد منتصف الليل، يفجرون الباب، يشهرون الأسلحة، كلاب بوليسية متوحشة تنتشر في كل أرجاء البيت، البندقية فوق رأسها، الجنود يدمرون كل محتويات المنزل، يبحثون عن شيء خبأته ميرا في قلب الصورة، الجنود يعتقلون ميرا وكل الصور وأقلام التلوين.
ميرا خائفة، تهمس وتسال كيف يتحول الكائن الحي إلى صورة؟ كان أخي أيمن يمشي ويعمل ويضحك ويدرس ويركض ويبتسم، صار صورة صامتة مصلوبة في هذا العراء، لا أحب الصور، يا الهي: صورة ابي اشارت عليّ، واعادت اخي الشهيد ايمن اليّ، قالت ميرا، نظرت إلى السماء ودخلت في نوبة بكاء.
الطفلة ميرا تنادي: ارحموني، أشباح تراها كل ليلة، جنود يدعسون ببساطيرهم المدببة على أجساد الصغار المعتقلين، يدقون أعناقهم ورؤوسهم، هراوات وضرب وبصق وصراخ وشتم وشبح وليل طويل طويل، أصوات رصاص في البلدة، تخاف ميرا من طلوع الفجر، ففي الصبح تكتشف ميرا ان أحدا ناقصا في هذا البيت أو ذاك، هناك شهيد أو أسير، كل بيت ساحة معركة، الدمى مبعثرة في غرفتها مربوطة مقيدة، صورة أخيها مثقوبة بالرصاصات، بقع دم على وجه الصورة، دموع تنزف في الظلمات.
ميرا تنظر إلى الصورة، هي تعرف ان شهداء بلدة سلواد كانوا يدفنون قديما في مدافن محفورة في الصخر جنوبي وغربي البلدة، لهذا ينابيعها كثيرة وبساتينها متنوعة تطل على وادي قيس العميق حيث كان أخاها الشهيد أيمن في نزهة مع أصدقائه عند اغتياله، ميرا تعتقد ان أيمن لا زال مختبئا داخل إحدى تلك الصخور، وان الطيور تحرس جسد الشهيد، تقف فوق القبور المحفورة تضع أعشاشها وبيضها وفي كل موسم هناك فراخ وأجنحة وميلاد.
ميرا الصغيرة خائفة، كل صورة جامدة أو متحركة ترتبط عندها يموت أخيها، تخاف من التلفاز حيث المشاهد الدموية، ميرا تبكي بحرقة ولوعة، ترى نفسها في كل مشهد، ترى صورها على السياج الفاصل في غزة، القناصة يستهدفون الأطفال بلا رحمة.
ميرا التي أحبت شجرة البلوط بدأت تكرهها، لقد كمن جنود الاحتلال خلف أطول شجرة بلوط في البلدة، ومن هناك انطلقت رصاصة قاتلة في جسد أيمن، انطفأت النار، برد كاس الشاي، انزل عن الصورة يا أبي، خذني إلى الواد يا أبي، اسقني من بركة عين الحرامية او عين الصرارة او عين العباسية، أريد ان ارتوي وارتوي واشرب من الذكريات، خذني إلى الصخور يا أبي لأرى أخي، اقبله واحضنه وارمي عليه التحية.
انا ميرا الصغيرة
لن انس من خطف البسمة عن وجهي
لن انس من حول اخي الشهيد الى صورة
انا من جيل تلمع في ذاكرته صور الجريمة
في كل سنة نكبر فيها
نحمل كتابا وحجرا وشعلة
لن نموت
ارواحنا ودماؤنا ترفض الخنوع والهزيمة