الحرب الإسرائيلية على غزة لم تعد تقتصر على تدمير البيوت وسفك الدماء بل تبعتها حرب إعلامية ونفسية. وجعلتها جزء لا يتجزأ من المعركة.
إسرائيل تدير أمورها عسكريا وسياسيا وإعلاميا، تقدس أهمها الإدارة الإعلامية الإسرائيلية والتي لعبت دور كبير في سيطرتها وجعلتها جذع مهيمن على أرض فلسطين، ولكن لفروع تحمل ثمار مرة المذاق.
منذ عقود وقع الصحفيين الإسرائيليين تعهد يلزمهم بالقواعد الرقابية العسكرية، إذا تم خرق هذا التعهد المعتمد من المكتب الصحفي الحكومي قد يتعرض المراسلون لسحب بطاقاتهم وحرمانهم إياها، وهذا القرار لم يقتصر فقط على الإسرائيليين بل وشمل الصحفيين الأجانب الذين سيحرمون من تأشيرات العمل في حال انتهكوا القواعد.
ما أن ابتدأت العملية العسكرية على غزة حتى سارعت إسرائيل وعممت ملزمة مواطنيها وإعلامها بمنع منعا باتا ذكر المكان الدقيق لسقوط الصاروخ، والإكتفاء بذكر المنطقة الجغرافية عامة، لأنها ترى ذكر المكان بدقة يساعد إسرائيل على تحسين دقة صواريخها.
الإعلام الإسرائيلي يمشي على ذات المنوال سواء كان اعلام رسمي أو غير رسمي، جميعه يتكتك على خطى ثابتة كالجندي الواحد متجه نحو خدمة قضيته، رغم الإختلافات حول الشأن الداخلي والمحلي في إسرائيل، ولكن عنجهية هذه الدولة الإمبريالية لا تسمح لأي عائق أن يقف في طريق هدفها الذي يتمحور حول الإستحواذ على فلسطين كاملةً.
إصدار الجيش الإسرائيلي قرار منع دخول الصحفيين الإسرائيليين إلى القطاع وتغطية الأحداث بشكل مباشر، لم يأت بمحض الصدفة بل إنها تتعمد التغطية الجزئية للأحداث، فمنع النشر والرقابة العسكرية إضافة إلى خنق الحرية الصحفية يتناقض منطقيا مع ما تطلقه إسرائيل على نفسها أنها دولة ديمقراطية، ولكن جميعنا نعلم أنها تغرق بالعنصرية والتمييز.
انظر للأماكن التي يترصد من خلالها الصحفيين الإسرائيليين أحداث غزة على إسرائيل، فتجدهم جميعا في منشآت إعلامية متواضعة على حدود القطاع، وذلك لمنع وسائل الإعلام الإسرائيلي من إظهار صور القتل والرعب الخارج من غزة، الهدف من ذلك يرجع لاستخدام سياسة التعتيم أو التكتيم الإعلامي التي تعتقد إسرائيل أنها ما زالت تحتمي وراءه.
وفي السياق ذاته وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تهديد للصحفيين خلال جلسة للمجلس الأمني والسياسي الكابينت من تسريب أي معلومات متعلقة بالعملية العسكرية على القطاع وحجم الخسائر التي يتكبدها سواء عسكريا أو اقتصاديا.
غضب الشارع الإسرائيلي
التعتيم الإعلامي أسلوب سوفيتي قديم استخدم لحجب العالم عن الحرب، إسرائيل تعتقد أن التعتيم أسلوب تكتيكي ماكر والأكثر دهاءً وذكاءً، ولكن فوجئت بردود فعل الشارع الإسرائيلي وانتقاداته للحكومة.
كاتب إسرائيلي يسخر من سياسة التعتيم قائلًا: "ليست سوى دفن للرؤوس في الرمال"، وأطلق عليها اسم "سياسة النعامة"، التي تدفن رأسها بالرمال جيدا دون أن تدرك حجم المخاطر التي تهددها حولها.
ما أغضب الشارع الإسرائيلي هو تضليل الإعلام الإسرائيلي عندما أعرب أن القسام يمتلك 150 صاروخا
والقبة الحديدية مستعدة لاعتراضها، ولكن أثبت العكس عندما رأوا أن صواريخ المقاومة وصلت لأكثر من 950 صاروخا وبعضها استطاع تجاوز القبة الحديدية.
وهذا ما دفعهم للإستهزاء بإسرائيل على مواقع التواصل الإجتماعي قائلين: "لو ان حماس بذلت جهدا أكثر لوصلت صواريخها إلى العاصمة اللبنانية بيروت".
الصمت الخبيث في إسرائيل تلاشى، وزمن طي الأسرار والكتمان ولّى، فمواقع التواصل الإجتماعي باءت لبعض التعتيم الإعلامي بالفشل، حيث لم يكن من المتوقع رصد الرعب والأحداث بكاميرا عرب ال 48 في بعض المناطق ولا حتى لتسريب بعض لمقاطع الفيديو من الإسرائيليين أنفسهم.
عدم إعلان إسرائيل لخسائرها لا يعني أن لا خسائر لديها ولكنها تتعمد عدم الإعتراف بنجاح ضرب المقاومة لها.
ولا بد أن عدم اعترافها بذلك سيصب لصالح الفلسطينين لأن الغارات الإسرائليلة على المدنيين تصور باستمرار وتنشر على كافة القنوات الفضائية وعلى مواقع التواصل الإجتماعي. حتى أصبح الفلسطنيين يروون قصصهم بأنفسهم وهذا يمنع إلى حد كبير التزوير في الحقائق كعادتها.
نجحت المقاومة هذه المرة في الاستخدام الصحيح للإعلام نوعا ما، وحققت اهدافها في الحرب النفسية وبث روح الهلع في نفوسهم من خلال إرسال رسائل نصية على هواتفهم النقالة تحثهم على الرحيل والتشويش على بثهم الإعلامي، والتي قلبت أمور إسرائيل رأسا على عقب وتراجعت خلالها أهداف وتطلعات إسرائيلية.
وما يؤكد هذا أن القنوات الإسرائيلية كانت تبث ما يعرض على قناة الأقصى والقدس الفضائيتان وتترجمها للعبرية.
ولنكن صريحين هذا لا يعني نجاح ذريع للفلسطيين، فلابد من الإعتراف أن هناك تقصير في التغطية العربية للدول الأجنبية والتي لها دور كبير في توصيل الرواية الفلسطينية الصحيحة والبعيدة عن الفبركة الإعلامية. وهذا التقصير سمح لإسرائيل باستخدامه ضدنا.
من بعض الإنجازات التي حققها الإعلام الفلسطيني ولعب دور الحرب النفسية بدقة، عندما توعدت المقاومة وأعلنت عن طريق المتحدث الإعلامي باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام أبو عبيدة أن تل أبيب ستقصف في تمام الساعة التاسعة مساءً بصواريخ j80.
انتظر الفلسطينيون الصواريخ بفارغ الصبر واشتعلت الروح الثورية في القطاع والضفة، في المقابل إسرائيل أظهرت برودة أعصابها من خلال ما ترصدته كاميرا القناة الإسرائيلية الثانية متعمدة إظهار سريان الحياة بشكل طبيعي في شوارع تل أبيب وكأنها تستهين بتوعد المقاومة. مستخدمة تعتيم إعلامي بحت للأحداث.
وضربت تل أبيب ب 10 صواريخ بعيدة المدى، وبعد يومين فقط من تنفيذ المقاومة وعدها وضرب تل أبيب وعسقلان، عرضت القناة الثانية تقرير يوضح سوء الأحوال الإقتصادية للمحلات التجارية التي خسرت الملايين منذ بدء عملية "الجرف الصامد".
وأظهر التقرير استياء ويأس التجار الإسرائيليون، فأجمعوا قائلين "في كل حرب نخسر الكثير من الأموال وتتراكم علينا الديون حتى اضطررنا لطرد عمالنا لأننا لا نستطيع دفع رواتبهم، فكما ترى الشوارع والأسواق والمطاعم خالية وجميع المواطنين في الملاجئ"، هل هذه الحياة الطبيعية التي عرضت وقت ضرب الصواريخ؟
التعتيم يندرج تحت مصطلح التضليل الإعلامي الديماغوجي أو البروباغندا أو الدعاية الإعلامية المفبركة، وهذا ما دفع إسرائيل لرسم الواقع كما يشاء للعالم الغربي، ونجحت بصياغة الرأي العام الغربي والشرقي.
وكما يقول المثل الشعبي "ضربني وبكى سبقني واشتكى"، إسرائيل أقنعتهم بأنها دولة مسالمة وفلسطين موطنهم الأم وأنها دولة ديمقراطية راقية على عكس الدول العربية المتخلفة، بل وشوهت الحقائق بعدة طرق حتى وصلت لدرجة تأسيس قسم خاص لاستخبارات التضليل الإعلامي.
فالإعلام أقام كيانهم واستطاع أن يستحوذ على مشروعيتها الدولية، حاولت استقطاب الرأي العام، فوظفوا مصطلحاتهم لخدمة التوجهات الإعلامية الإسرائيلية مثل كلمة الفلسطينيون لاغية صفة الشعب منها، وغيروا أسماء المدن الفلسطينية كاملة واستخدموا القيادات العسكرية الإسرائيلية كناطقين بالعربية لتبرير سياساتها الهمجية والتعامل مع الإعلام العربي مثل قناة البي بي سي (BBC).
يقول جوزيف جوبلز: "اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس"، إعلامهم عديم الضمير طبق هذه المقولة في الإنتفاضة الفلسطينية الثانية عندما زور صور الضحايا الفلسطينيون لصالحها وعلى رأسه صور الشهيد محمد الدرة عندما البسته الزي اليهودي.
عدا عن أنها تعاملت بأجندة معينة وعرضت الأحداث بانتقائية مركزة على العنف الفلسطيني.وحولت هزائمها لحملة إعلامية، مستدرجة فيها عطف الجميع كإخلاء المستوطنات في غزة.
عندما بدأت الأفعى إسرائيل بالترويج عبر وسائل الإعلام الغربي أنها المعتدى عليه من صواريخ المقاومة كعادتها، بدأت بعض المحطات الغربية تعي أن هناك خطأ ما ولاقت انتقادا لاذعا في الفترة الأخيرة من بعض المحطات وخاصة الروسية خلال بث حلقات مباشرة مع مسؤولين إسرائيليين.
لا مجال للمقارنة بين قوة حماس العسكرية والإسرائيلية، ولكن لا شك أن إسرائيل تأثرت وتفاجئت بشتى سياسات المقاومة وصمود أهل غزة المدافعين عن قضيتهم.
لذلك إسرائيل تنتظر بفارغ الصبر إنهاء الحرب العسكرية والنفسية على مواطنيها المختبئين في الملاجئ لأنها لم تخطط بالشكل المعتاد عندما شنت غاراتها على القطاع، في المقابل حماس لن تتنازل وتوافق على انهاء الحرب بسهولة فهي ستعلم إسرائيل وبلا شك المثل العربي الذي يقول "دخول الحمام مش زي خروجه ! "