تضمن خطاب الرئيس الفلسطيني امام الجمعية العمومية للأمم المتحدة نهاية ايلول الماضي اشارة صريحة وواضحة الى نيته الدعوة الى اجراء انتخابات في الاراضي الفلسطينية فور عودته الى البلاد. وعلى اساس ذلك نشطت حالة من الحراك السياسي والمجتمعي، ولقيت هذه "الاشارة" ترحيب عام وشعبي من مجمل القوى والاتجاهات السياسية والمجتمعية، وكَثُرَت البيانات والتصريحات الاعلامية باسم الاحزاب والاتجاهات السياسية والاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني، مثلما لقيت ترحيباً واسعاً على المستوى الدولي.
لا استطيع هنا الا ان اعبر عن مدى اهمية فكرة اجراء انتخابات، ودورها في تفعيل الحراك السياسي والمجتمعي، على المستوى الداخلي مثلما هو الحال على المستوى الخارجي. وكذلك اهميتها في تجديد مستويات القيادة وصناعة القرار، واعادة الحيوية والحياة الى هيئات المجتمع التمثيلية على كل المستويات السياسية والاجتماعية، واشراك المواطنين في عملية صناعة القرار في كل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. لكنني لن اتمكن هنا من الادعاء الى انني من "المتفائلين" بهذا الامر، وكل ما اتمناه هنا ان تكون "تقديراتي" خاطئة ومجرد افكار وتحليلات فقط لا غير.
اما في الواقع والمعطيات القائمة فان هناك جملة من الامور والقضايا المتداخلة والمعقدة التي ينبغي تداولها ونقاشها، حتى لا نقع فريسة سهلة للتوقعات المرتفعة، ونصطدم لاحقاً بخيبة امل لا تساعد الا في اضافة مزيد من التعقيدات على واقع اقل ما يمكن ان يقال فيه انه معقد لدرجة خطيرة من كافة النواحي.
اول هذه الامور هو ان الانتخابات بشكل عام هي وسيلة وليست هدف بحد ذاته، فهي وسيلة لإشراك الجمهور في عملية صناعة القرار على كل المستويات والاصعدة، وافساح المجال امامه لممارسة دوره الرقابي على الهيئات ومراكز صنع القرار، والتصويب الدائم لعملها في خدمة تنمية المجتمع في كل المجالات. والانتخابات بهذا المعني ليست هي الشرط الوحيد لممارسة الديمقراطية، او اقامة نظام ديمقراطي تعددي. انها ركن او اساس واحد من سلسلة اركان ومتطلبات اساسية لإقامة حكم ديمقراطي، كالإقرار بمبدأ الحرية والتعددية السياسية، والفصل التام بين السلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، والقضائية)، والاستقلال التام للقانون وسيادته. والاعتراف بمبدأ تداول السلطة بين القوى السياسية المختلفة.
اما بالنسبة للانتخابات ذاتها وحتى تكون في سياق ديمقراطي تام فإنها يجب ان تكون عامة، وتشمل كل مراكز صنع القرار السياسي والمجتمعي والهيئات والمؤسسات المجتمعية كافة اولاً، وان تكون حرة وقائمة على التنافس الحر والشريف بين كافة المتنافسين، وبعيدة عن "احتكار" مراكز القوة والنفوذ المختلفة ثانياً، ولا بد ان تكون انتخابات حرة وغير مقيدة بقيود محددة ثالثاً، وان تفضي في نتيجتها النهائية الى حق وحرية ومبدأ تداول السلطة ومراكز صنع القرار رابعاً، وان تكون دورية خامساً، ومتساوية سادساً ويتساوى فيها كل المواطنين في ممارسة الحقوق الانتخابية.
بين هذا وذاك لا بد من حرية وجود احزاب سياسية وحركات مجتمعية قادرة على تمثيل الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة والدفاع عن مصالحها في سياق المصلحة المجتمعية العامة، ولا بد من توفر صحافة حرة قادرة على الوصول الى الحقيقة ونقلها للجمهور الواسع من المواطنين.
لا اريد التوسع اكثر في هذه القضايا اكثر من ذلك، وبالطبع فان العودة الى الادبيات الخاصة بهذا الامر، وهي كثيرة، وكذلك الاطلاع على تجارب الشعوب المختلفة تقدم لنا حصيلة هامة من الدروس والعبر التي قد نستفيد منها في مسار يمكننا من تحويل عملية اجراء انتخابات الى محطة نوعية ومختلفة في مسيرة النضال وبناء مجتمع متحرر من الاحتلال والتبعية، ويفتح امامنا افاقاً واسعة على طريق التنمية.
صحيح ان كل ما ذكرته اعلاه هي متطلبات كثيرة ومتعددة، لكنها بالتأكيد اسس وقاعد هامة لا بد لنا من مراعاتها اذا اردنا النجاح في مسيرتنا نحو الامام. وبدون ذلك فإننا قد نجد ذات يوم سقف التوقعات الذي بنيناه، وعلقناه على فكرة الانتخابات ينهار فوق رؤوسنا جميعاً.
نبيل دويكات
رام الله- 7 تشرين اول 2019