لميس أندوني
27 أكتوبر 2019
العربي الجديد
قد لا تنجح انتفاضة الشعب اللبناني في هدم الطائفية والاستبداد على المدى القريب، لكنها هزّت أركان النظام العربي الذي استكان إلى التقسيمات المذهبية والطائفية وحكم أقلية متنفذة تتغذّى على الصراعات الفئوية والطائفية ومن التبعية لإملاءات السياسة الخارجية، بل وتزدهر منهما، وفتحت بوابة العالم العربي على الطريق إلى الدولة المدنية المبنية على المواطنة والحريات السياسية والفكرية.
الانتفاضة العابرة للطوائف تعني بروز وعي بالمصلحة الطبقية، أي أن الصراع طبقي في جوهره، وأن التمثيل الطائفي يحمي الفئات المتنفذة في الطائفة، وتجعل منها شريكة في نظام اقتصادي، يتجاهل بل يخرق حقوق الأغلبية، خصوصاً في عصر النيوليبرالية الإقتصادية. ويهدّد هذا الوعي بهدم مفهوم الطائفية الذي يصنع وهم حمايةٍ زائفةٍ تزيد ثراء القيادات، فيما تدفع جموع الطبقة الوسطى، وخصوصاً الفقيرة، إلى أتون الحروب الطائفية.
لكن التحدي الذي تشكله الانتفاضة اللبنانية لأركان الأنظمة والقيم الاجتماعية المستبدّة يعني أنها
"كل الانتفاضات العربية ثورة على غياب العدالة الاجتماعية، وبالتالي على التبعية للمؤسسات المالية الدولية"استفزت، ليس القوى اللبنانية ودولاً عربية تريد الإبقاء على الطائفية في لبنان لضمان نفوذها فحسب، بل والمؤسسات الدينية التي تحتكر تفسير النصوص لمصلحتها، ومصلحة مموليها من حكام وأجهزتهم الأمنية، وبالتالي تعمل قوى الثورة المضادة الآن، في العلن والخفاء، لإجهاض الحراك الشعبي اللبناني. فالطائفية تتمسّك بمؤسساتها الدينية، ولا يوجد نظام مستبد إلا ويصاب بذعر من ردم الطائفية فكرة وقيمة توحّد المقهورين ضده. فمعظم الأنظمة استعانت، بل أحياناً زرعت النعرات الدينية والإثنية والمناطقية، أو عمّقتها، لفرض سلطتها على شعوبها، فلم تسعَ معظم الأنظمة إلى إزالة الحواجز بين مكونات الدول العربية والعالم العربي التي خلفتها قوى الاستعمار القديم، وحرّضت عليها قوى الاستعمار الجديدة، ممثلة بالولايات المتحدة الأميركية، بل حولتها الأنظمة إلى جدرانٍ بدأت الانتفاضة اللبنانية بهدمها، فالطائفية وكل أشكال (ونظم) التعصب والعنصرية تضع الفقير بمواجهة الفقير، فيما تُمَكّن الفئات الحاكمة والمستفيدة من الاستبداد وتكديس الثروات، وبالتالي انتشار الفساد. وإذا كانت كل أشكال التفرقة مفيدة لسيادة الأنظمة، فدخول التغييرات النيوليبرالية، واستفحالها منذ التسعينيات في معظم الدول العربية، جعلت من أشكال التمييز وسيلة ضرورية لإحكام سيطرة الأنظمة فيما تنسحب من دورها في الرعاية الاجتماعية، وتمضي في خصخصة المقدّرات الاستراتيجية للدول وإهدارها.
لذا، كل الانتفاضات والاحتجاجات العربية، في مضمونها، ثورة على غياب العدالة الاجتماعية، وبالتالي على التبعية للمؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، وهي التي تفرض السياسات النيوليبرالية التي ترهن سياسات الأنظمة بالدول الغربية المسيطرة على هذه المؤسسات. وفي الوقت نفسه، ساهمت في لبنان تداعيات التغييرات النيوليبرالية وتعميق الفجوة بين الفقير والغني، وتوسيع رقعة الفقر، وتهديد الطبقى الوسطى مباشرةً في تفجير انتفاضة عابرة للطوائف ورفض نظام المحاصصة الطائفية الذي جعل كل القوى المشاركة في حكومة التوافق الطائفي، من القوات اللبنانية اليمينية، إلى حزب الله الذي يعتبر نفسه الأقرب إلى الفئات الشعبية، والأكثر تأثيراً في الوجدان العربي لمقاومته إسرائيل، تقبل الإجراءات النيوليبرالية. ولم يتحدَّ أيٌّ من هذه الأحزاب، بغضّ النظر عن الخلاف الجذري بينها حول الموقف من إسرائيل والقضية الفلسطينية، جوهر السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، فلم يعترض حزب الله على البرنامج "الإصلاحي" الذي عرضه رئيس الوزراء، سعد الحريري، وجرى فيه تمرير قرار خصخصة الاتصالات، وهذا من شروط صندوق النقد الدولي، على الرغم من تناقضه مع جوهر المطالبات الشعبية التي ثارت على الاستمرار في سياسات التفقير وغلاء أسعار الخدمات الأساسية، بل تضع المواطن فريسةً لقوى رأس المال التي تستفيد من الخصخصة. اختار حزب الله ما يراه حماية لنفسه، من قوى يمين الطائفية (المسيحية)، وخصوصاً بعد أن أعلن حزب القوات اللبنانية (المسيحي اليميني) بقيادة سمير جعجع الحرب على حزب الله، بانسحابه من الحكومة، بغية إسقاط حكومة "العهد" التي مكّنت حزب الله، بتحالفه مع التيار الوطني الحر، (المسيحي) بقيادة رئيس الجمهورية ميشال عون، وسيطرة غير مسبوقة على مفاصل استراتيجية للدولة اللبنانية. لكنه وجد الآن نفسه محشوراً بين الغضب الشعبي الذي يسعى إلى إسقاط التوافق الطائفي ونهج سياسات الفساد والإفقار وبين محاولة حماية نفسه ونفوذه بالإبقاء على حكومةٍ تمثل مصالح رموز الفساد والاستغلال والقهر الاقتصادي، والتي تهدّد مصالح الأغلبية في لبنان من كل الطوائف، بما فيها قاعدته الاجتماعية من الشيعة، فخوفه من استغلال الأطراف المدعومة سعودياً وأميركياً تضعه في مواجهة الحراك الشعبي في صف الفئات المتنفذة، التي تنتظر، في جزء منها، فرصة الانقضاض عليه.
وجاء تصريح الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، أن الحراك اللبناني خرج عن مساره، ووقع
"لا يمكن لحزب الله استعداء النبض الشعبي ضد الطائفية والنيوليبرالية الاقتصادية وحماية نفسه ومصالحه في آن واحد"تحت نفوذ السفارات الأجنبية، يحمل تعميماً خطيراً. فصحيح أن أميركا والسعودية وأطراف لبنانية ترى في الانتفاضة فرصةً لتقويض نفوذ حزب الله وإيران، إلا أن وقوفه ضد الاحتجاجات الشعبية تضعه في صف الطبقة المهيمنة اقتصادياً، وتعرّضه لعزلةٍ قد لا ينقذه منها إلا لجوءه لحشد طائفته، والاعتماد على حركة أمل (الشيعية)، التي تشارك قيادتها، وعلى رأسها نبيه برّي، المستفيدة من استمرار الفساد من دون محاسبة، والتي لا تختلف في توجهاتها الطبقية عن حزب المستقبل الذي فرض نفسه ممثلاً للسُّنة، وحزب الكتائب ممثل المسيحية الانعزالية.
لا يمكن التقليل من خطر الأحزاب الانعزالية، مثل الكتائب، وخصوصاً القوات اللبنانية، المهادنة لإسرائيل، ويشهد تاريخها على تعاملها مع الدولة الصهيونية، لكن ذلك لا يعني أن على اللبنانيين قبول النهج الاقتصادي والسكوت عن القهر الطبقي واستمرار الطائفية السياسية تحت شعار حماية المقاومة، خصوصاً أن التيار الوطني الحر، حليف حزب الله في الحكومة، قد تمادى في تصريحات وزرائه العنصرية ضد اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، ولا يمكن حزب الله استعداء النبض الشعبي ضد الطائفية والنيوليبرالية الاقتصادية وحماية نفسه ومصالحه في آن واحد.
تحدّت الانتفاضة اللبنانية جميع الأحزاب اللبنانية المشاركة في الحكومة، لأنها لم تجد حزباً فيها يرفض سياسات التجويع، ولكن صرخة الانتفاضة اللبنانية التي لم تفهمها الأطراف اللبنانية في الحكومة، أن التوافق الطائفي، تحت أي مبرّرات، أدّى إلى تمرير تعميم الظلم الاجتماعي وشرعنته، فلا حماية من تدخل خارجي أو لجوء الأطراف إلى إشعال فتيل الذعر الطائفي، والدفع نحو حرب أهلية، إلا بتوجّه يحتاج قيادة نحو مرحلة انتقالية، بهدف إنهاء التقاسم الطائفي، تقود لبنان، بل والعالم العربي، إلى وضع أسس دولة مدنية تحرّرية.