عشرات نقاط التماس في الضفة الغربية شهدت مواجهات عنيفة لم تعهدها منذ سنين طويلة، والأراضي المحتلة عام 48 إضافة للقدس وضواحيها تململ المارد الفلسطيني من قُمقمِه ونفث دخانه، مُعلناً الثبات بكبرياء في وجه الواقع الاسرائيلي، ولاشك أن كافة الأخبار تناولت الإنتفاضة المصغرة كأحداثٍ وأي رؤية تحليلية لها إن وجدت، فهي إنبثقت عن الظرف السياسي فقط، لكن المتمعن بدقة لكل ما يجري داخل المواجهات، فإن تفاصيلها الدقيقة التي قد يعتبرها البعض "هامشية" تُمكّنه من استنتاج أبعادٍ مهمة ربما هي غائبة الأذهان.
تغطية الثوّار لوجوههم ليست وليدة اللحظة أو العام، بل إنها وليدة عقود طويلة خلت عبر كل الثورات والحركات التحررية الإقليمية والعالمية، ويرتبط اللثام بمقصد إخفاء الشخصية وعلائم الوجه منعاً للوقوع في الإعتقال، أما الناحية الأخرى فهي ترتبط بالثورة الليبية التي قادها المجاهد عمر المختار في وجه الإستعمار الإيطالي، فعلاوة على إخفاء الشخصية كان ثوار ليبيا يستعملون اللثام للوقاية من آثار رمال الصحراء وظروفها المناخية، وبالنسبة للمستعربين فهذه زاوية أخرى وشأن منفصل عن موضوعنا، حيث حاول الإحتلال فيها إستغلال إنتشار ظاهرة اللثام الثوري أحيانا لإعتقال المتظاهرين الفلسطينيين.
إخفاء المتظاهرين لوجوههم في المواجهات مع الإحتلال الاسرائيلي، أو ما أحبذ أن أطلق عليه "ظاهرة اللثام الثوري"، عادت بقوة لتجتاح الشارع الفلسطيني في المواجهات، واللافت في الأمر أنها تشمل كافة القرى والمدن والمناطق التي تندلع فيها المواجهات مع جيش الاحتلال، هذه العودة واسعة النطاق تضع بين أيدينا دلائل جديدة وتحمل أبعاداً كثيرة.
منذ زمنٍ ليس ببعيد وفي الأيام الماضية كان الشبّان يرشقون الحجارة والزجاجات الحارقة بلا لثام وهم مكشوفي الوجوه، خاصة في مناطق القرى والبلدات الفلسطينية، فالشبان يأخذهم الحماس بمجرد قدوم جيب اسرائيلي فيسارعون لرجمه بالحجارة دون وعي، لكن اليوم عاد اللثام الثوري ليحتل واجهة المواجهات من جديد، وليغدو سمة بارزة وأساسية من سماتها، هذا ليس أمرا عشوائيا بل يعكس وعياً أمنياً متصاعداً بل وذاتياً لدى الشباب الفلسطيني، فمن الواضح أن المنطق يسير بشكل متوازن مع العاطفة في داخل كل شاب فلسطيني يخرج للمواجهات.
من جانب آخر، لم يقتصر التطور على الوسائل الإعلامية والإتصالية خاصة والتكنولوجيا عامة، بل إن الشباب الفلسطيني أصبح يعي خطر هذا التطور ويُدرك جيدا أنه سلاح ذو حدين، فأمام تطور وسائل الإعلام والإتصال "التصوير والفيديو" خاصة، لا يُعقل أن يُقدم الشبّان على منع أي صحفي أو ناشط شبابي من تصوير المواجهات وروّادها، بل لجؤوا لحماية أنفسهم بأنفسهم عن طريق "اللثام" وهذا يشير إلى وعي منطقي ذاتي.