د. حسن أيوب
أستاذ العلوم السياسية والسياسات المقارنة في جامعة النجاح الوطنية
في تصريحات قل نظيرها تصدر عن شخصية سياسية أمريكية عريقة انتقد زبيغنيو بريجينسكي بقوة سياسة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، والهجوم الذي تشنه إسرائيل على قطاع غزة. بريجينسكي هو مستشار الأمن القومي الأسبق في عهد إدارة جيمي كارتر (الحزب الديمقراطي)، ومن أبرز علماء السياسية وعباقرة التخطيط الجيوستراتيجي، وحاليا هو من أبرز مستشاري الرئيس بابراك أوباما، وعضو مؤثر في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي. باختصار فإن ما يصدر عن هذا الرجل المخضرم من تصريحات لا يمكن إلا أن يعبر بعمق عن التوجهات السائدة في دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية.
أغلب الظن فإن تصريحات بريجينسكي سيكون لها هزات ارتدادية في الأيام والأسابيع المقبلة، بخاصة عقب الرفض المهين من قبل الحكومة الاسرائيلية لمبادرة جون كيري لوقف إطلاق النار في غزة، ووصف وزير الخارجية الأمريكية من قبل أعضاء بارزين في مكتب نتنياهو بأنه هاوٍ وقليل الخبرة. قبل أن نتناول أقوال بريجينسكي ينبغي أن نلاحظ أمرين: الأول هو أن هذه التصريحات أتت بالذات عبر شبكة سي إن إن الإخبارية العملاقة، والتي لوحظ حصول تغيير في نوعية تغطيتها للعدوان الجاري على غزة لجهة تغطية أكثر توازنا (بشكل نسبي)، الأمر الذي يعكس وجود تغير في المناخ السائد في الولايات المتحدة إزاء السلوك الاسرائيلي المناكف والمكلف للسياسة الخارجية الأمريكية. والثاني، هو أن الذي أجرى المقابلة مع بريجينسكي هوالصحفي المعروف وأستاذ العلاقات الدولية د.فريد زكريا بكل ما يملكه من سمعة ونفوذ في الأوساط الأكاديمية والإعلامية، وهو معروف بميوله السياسي الوسطية وليبراليته، حاور بريجينسكي حصريا حول توجهات الإدارة فيما يتعلق بالصراع في الشرق الأوسط. إن هذه المقابلة تشير إلى الرسالة القوية التي تريد أن توجهها الإدارة الديمقراطية لحليفها الأقرب في الشرق الأوسط، وعلى الملأ. حسب محللين بارزين في الولايات المتحدة فإن بريجينسكي اختار كلماته بعناية ليعبر عن ما يريد الرئيس الأمريكي نقله لإسرائيل ويمنعه عن قوله بنفسه اعتبارات سياسية محددة. هذه الاعتبارات برأينا تتعلق حصرا بقوة الضغط الذي يمارسه اللوبي الصهيوني على الإدارة من خلال الكونغرس، وهو مايفسر إحجام الإدارة عن انتقاد العدوان، ليس علنا على الأقل.
يتوقع بريجينسكي في هذه المقابلة بأن "سياسة نتنياهو لن تنجح". يضيف بأن "نتنياهو يرتكب خطأ كبيرا. عندما قبلت حماس بالفعل فكرة المشاركة في القيادة الفلسطينية فإنها اعترفت بتصميم هذه القيادة على التوصل إلى حل سلمي. لقد كان هذا خيارا حقيقيا، وكان على نتنياهو التعامل معه". إن هذا التقدير الذي يقدمه بريجينسكي يشير إلى ما أشار إليه العديد من المراقبين للسلوك الاسرائيلي بهذا الصدد، وهو أن الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، وبخاصة من اليمين واليمين المتطرف تشعر بالتهديد من إمكانية وجود موقف فلسطيني موحد ومتماسك إزاء الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، بل يؤرقها وجود توجه سياسي فلسطيني جامع يتعاطى بإيجابية مع مقاربة يمكن وصفها بالواقعية لهذا الصراع. إذ إن ذلك سيحرج إسرائيل، والإدارة الأمريكية معا. الواقعية هنا برأي إسرائيل هي القبول بالهزيمة السياسية والإذعان لشروطها للتسوية، حتى لو تطلب ذلك اللجوء للقوة العسكرية.
يضيف بريجينسكي، بأن نتنياهو عوضا عن التعامل الإيجابي مع هذا التغير في موقف حماس "قام بشن حملة تحريض ضد حركة حماس، واستغل مقتل الاسرائيليين الأبرياء الثلاثة ليتهم حماس بخطفهم وقتلهم بدون أي دليل. استغل نتنياهو ذلك لتأليب وتحريض المجتمع الاسرائيلي لتبرير الهجوم على غزة. هذا الهجوم القاتل". كما أشرنا، وأشار الكثير من المحللين فإن الحكومة الاسرائيلية انطلقت في مخطط مسبق لشن هذا العدوان مستغلة الاختطاف المفترض للمستوطنين الثلاثة. إلا أن هذا التقدير عندما يصدر عن بريجينسكي فإنه يعني بأن الإدارة الأمريكية بصدد نزع الشرعية عن سلوك نتنياهو المغامر والخطير. هذه الوجهة تصبح أشد وضوحا في عبارات بريجينسكي التالية: "علينا أن نكون واضحين [فيما يتعلق بالهجوم على غزة]، هذا السلوك لم نقره على طول الخط، ولا ندعمه، وهو ما يمكن أن يدفعنا نحن وبقية المجتمع الدولي لاتخاذ خطوات لمنح الشرعية للتطلعات الفلسطينية ربما من خلال الأمم المتحدة".
إذن هل تتخلى الولايات المتحدة عن إسرائيل في حمل عبء جرائم الحرب التي ترتكبها في قطاع غزة، وتريد أن تخلي طرفها من مسؤولية شن هذا العدوان ابتداء؟ على الأقل من زاوية بريجينسكي هي تفعل ذلك. ثمة أزمة فعلية في التوافق الأمريكي-الاسرائيلي حول المخارج الممكنة للمواجهة التي افتعلتها إسرائيل في قطاع غزة، ناهيك عن الاختلافات بينهما في عدد من القضايا الإقليمية، كما اشرنا في مقالة سابقة. إن الرفض الاسرائيلي غير المعهود لمبادرة جون كيري لوقف العدوان على غزة بحكم تعاملها الإيجابي مع بعض المطالب الفلسطينية -حسب مصادر اسرائيلية- وعودة كيري إلى بلاده بدون إنجاز قد راكم الغيظ الأمريكي من إصرار حكومة نتنياهو على إفشال دبلوماسيتها الشرق أوسطية مرة بعد أخرى، وبخاصة إفشال جهود كيري في استئناف المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية وإحداث اختراق في هذا الملف، ومحاولات إسرائيل المتواصلة لإفشال السياسة الأمريكية في الموضع الإيراني.
إن الأزمة الإقليمية الشاملة التي فجرها العدوان الاسرائيلي على غزة تنذر بإلحاق مزيد من التراجع على النفوذ الأمريكي عقب هذا الفشل الجديد للإدارة الأمريكية والذي تلعب فيه إسرائيل دورا محوريا. أغلب الظن فقد تعمدت إسرائيل استبعاد الدور الأمريكي لصالح تحالف إقليمي يتجاوب مع الاستراتيجية الاسرائيلية أكثر من تجاوب الولايات المتحدة، وهو ما يفسر التعثر المتكرر للتوصل إلى وقف ثابت لإطلاق النار حيث تخوض القوى الإقليمية صراعاتها الخاصة برسم وقف العدوان على غزة. هل باتت إسرائيل أقرب إلى السعودية بحكم إحساسهما المشترك بالتهديد الإيراني واحتجاجهما على السياسة الناعمة لباراك أوباما في هذا الملف؟ وهل احتجاج السعودية على سياسات أمريكا في سوريا، والحماسة السعودية لحكم السيسي، واشتراك هذا الأخير مع إسرائيل في رغبة لجم وخلع أضراس المقاومة في غزة، قد خلق معطيات جديدة دفعت بريجينسكي لهز العصا بوجه إسرائيل؟ وبالمقابل هل تندفع حماس متسرعة (وربما ترتكب خطأ فادحا) في الدخول بتحالف مضاد؟ هل هو التحالف -أو لنقل التواطؤ الإقليمي مع إسرائيل- الذي لا تكف حركة الجهاد الإسلامي عن التحذير منه على لسان أمينها العام ونائبه، والذي تسكت عنه حركة حماس وربما تسعى لتحسن موقعها من خلاله، وهو ذاته التحالف الذي يسعى رئيس السلطة الفلسطينية لإدراكه؟ أغلب الظن هو كذلك، وهو أحد أهم الدوافع وراء تصريحات بريجينسكي.