كتب سمير ابو شمس
بالعودة الى الاكتظاظ في مراكز توقيف الشرطة في النظارات ومراكز الإصلاح والتأهيل، وكيف ان في بعضها كتل من اللحم البشري متراكم بشكل غير منظم واحيانا منظم، وينطبق عليه المثل الذي يقول: مثل علبة السردين.
اتذكر احجية، كيف نستطيع ان نضع فيل بالثلاجة بثلاث خطوات؟ كنت كلما أسمعها، اذهب بخيالي بعيدا الى المدى الذي يمكن أن تكون بحجمه تلك الثلاجة التي تتسع الفيل، وعادت تلك الاحجية الى ذاكرتي عندما رأيت كيف يحشر السجناء في بعض نظارات الشرطة بثلاث خطوات أيضا؛ فيفتح باب النظارة، ويدس فيها كتل بشرية ومن ثم تغلق الثلاجة أو النظارة فلا فرق.
عندما تضع رجلك داخل النظارة ستشعر بالفرق الكبير بين درجة الحرارة المرتفعة في الداخل والأخرى في الخارج، وكيف ان نسبة الرطوبة ترتفع كثيرا بين الفضاءين وكأن برزخا بين الداخل والخارج لا يسمح لأحدهما أن يبغي على الآخر، ورائحة الدخان العالقة في كل خيط نسج منه فراش أو بطانية، وضباب يصنعه مزيجا من دخان السجائر وانفاس المحتجزين ورائحة العفن المتراكم. كان واضحا قلة الاكسجين الذي يدخل رئتي، وأنا أكابر كي لا اظهر تعففي أمام النزلاء.
لا مكان للوقوف، وبالكاد استطعت الجلوس على أحد الابراش وبصعوبة أحصي عدد الذين جلسوا على يميني أو على يساري، والواقفون أمامي يحجبون بقايا الضوء، لدرجة أني لم أعد أرى ما اكتب من ملاحظات تزاحمت في رأسي، ولم اعد أرى تلك العيون المُحمرة من عبق الدخان وقلة النوم، وكانت تظهر أطراف الوجوه كلما لمع عليها بعض من انعكاس الضوء على تلك الدهون المتراكمة على جباههم لقلة الاستحمام، وكانت الأصوات تتداخل من التذمر ومن وصف المكان حتى شعرت بشيء من طنين الصمت كخلية نحل تدور بعصبية.
تتكون النظارة التي زرتها من ثلاث غرف متصلة أشبه ما تكون بمقطورات ملتصقة ببعضها البعض، الغرفة الوسطى هي الممر الوحيد بين الغرفتين، وحجم كل غرفة لا يتعدى الخمسة عشر متراً مربعاً، لا تتسع لأكثر من ستة موقوفين، فالغرف الثلاث فيها ثمانية عشر سرير، ينام الباقون على الأرض بطريقة يصعب وصفها، وبعضهم ينتظر الاخرين كي يستيقظوا ليأخذ مكانهم بالنوم، وهذا يخالف المادة (19) من قواعد مانديلا التي تنص على: "يزود كل سجين، وفقا للعادات المحلية أو الوطنية، بسرير فردى ولوازم لهذا السرير مخصصة له وكافية، تكون نظيفة لدى تسليمه إياها، ويحافظ على لياقتها، وتستبدل في مواعيد متقاربة بالقدر الذي يحفظ نظافتها".
وفي النظارة فقط مرحاضين يسترهما جدار من الطوب وبطانية كانت رمادية اللون قبل ان يسّود لونها من لمسات الايدي عند الدخول وعند الخروج، ففي كل صباح يستيقظ نحو ثمانين نزيلاً ينتظرون فراغ احد المرحاضين، وصار لزاما أن يعرف كل المحتجزين إن كان أحدهم يعاني من مشاكل في الجهاز البولي أو مصاب بالإسهال أو السكري، فلا خصوصية بعد الان، وهذا يخالف القاعدة رقم (12) من قواعد مانديلا حيث تنص على: "يجب أن تكون المراحيض كافية لتمكين كل سجين من تلبية احتياجاته الطبيعية في حين ضرورتها وبصورة نظيفة ولائقة".
النظارة في الأصل، هي مركز توقيف مؤقت لاحتجاز المقبوض عليهم لفترة لا تتعدى الأربع وعشرون ساعة، على ان يتم عرضهم على النيابة العامة أو القضاء، أو يرّحلوا الى مركز الإصلاح والتأهيل إذا ما كانوا مطلوبين للقضاء او لتنفيذ احكام ضدهم. ولا يجوز الإبقاء على المقبوض عليهم أكثر من المدة القانونية المذكورة، وبعد عرضهم على النيابة العامة أو القضاء تتحول تبعية احتجازهم من الشرطة الى الإدارة العامة لمراكز الإصلاح والتأهيل ويخضعون لقانون رقم (6) لسنة 1998 بشأن مراكز الإصلاح والتأهيل، وقواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نلسون مانديلا).
ولذلك، يكون كل محتجز عرض على النيابة العامة أو القضاء حيثما ينفذ احتجازه؛ يكون تابعا للإدارة العامة لمراكز الإصلاح والتأهيل، وغير ذلك يكون احتجازهم مخالف للكثير من مواد القانون المذكور، ويكون مخالفا لأوامر القضاء التي تحدد عند الاحتجاز أن يكون مكان الاحتجاز هو مراكز الإصلاح والتأهيل، ولكن الشرطة تعيده الى النظارات التابعة لها خلافا لما جاء بمذكرة القضاء. فإذا اكمل احتجاز الموقوفين في نظارة الشرطة فيجب اعتبار تلك النظارات جزء من مراكز الإصلاح والتأهيل، ويجب على القضاء تنفيذ زيارات دورية لتلك الأماكن.
لا تتم مراقبة النظارات بشكل دوري من قبل القضاء، وعلاوة على ذلك؛ فإن الشرطة لا تلتزم بقانون مراكز الإصلاح والتأهيل ولا قواعد نلسون مانديلا التي تقول بالقاعدة رقم (9) "حيثما وجدت زنزانات أو غرف فردية للنوم؛ لا يجوز أن يوضع في الواحدة منها أكثر من سجين ً واحد ليلا. فإذا حدث لأسباب استثنائية، كالاكتظاظ المَّؤقت، أن اضُطَّرت الإدارة المركزية للسجون إلى الخروج عن هذه القاعدة، يتفادى وضع سجينين اثنين في زنزانة أو غرفة فردية". فعندما يتم حشر اكثر من 80 انسان، واحيانا يصل العدد إلى اكثر من مئة في مكان معد لاستيعاب 18 موقوفا فقط؛ فإن ذلك ينتج ألم وعذاب شديد جسديا ونفسيا، وهذا يعتبر ضربا من ضروب التعذيب حسب المادة (1) من اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، حيث تنص المادة في بندها الأول على:" لأغراض هذه ا لاتفاقية، يقصد بالتعذيب "أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه". وهنا يكون الاحتجاز بهذا الشكل وهذه الظروف بمثابة عقوبة للموقوف.
والسؤال الذي يمكن طرحه، لماذا يقبل مدراء الشرطة بهذا الضغط وهذه المغامرات التي قد تفضي الى كارثة إنسانية، أو وباء، أو امراض معدية، أو ربما حريق مفتعل داخل النظارة أو غير مفتعل؟ وقبل اخذ القرارات اللازمة للتعامل مع الحريق؛ يكون عددا لا بأس به قد فارق الحياة من الاختناق والتدافع. فهل صمت إدارات الشرطة وادارات النظارات له علاقة بنظام الترقية والتقييم، وهل المدير القابل لهكذا أوضاع يعتبر مدير قادر على التكيف وتدبر الامر، اما المدير الرافض فيعتبر من النوع المتذمر الذي لا يصلح لإدارة الازمات، وهل نحن نتعامل مع تحقيق إنجازات تحصى بالأرقام، أو ربما انهاء السنة بأكبر عدد ممكن من تنفيذ أوامر القضاء بغض النظر عن الكيفية لتسجل في سجل الإنجازات وتحطيم ارقام قياسية بغض النظر عن تحطيم النفوس.
اعتقد أن على الشرطة أن تعيد النظر بما يجري في النظارات قبل حدوث ما لا يحمد عقباه، فعليهم أن يفعلوا كما تفعل مراكز الإصلاح والتأهيل بأن يضعوا حدا أعلى لعدد النزلاء لا يقبلون تجاوزه مهما حصل، وأن يعيدوا الموقوفين الى القضاء كي تتحول المشكلة بين القضاء ومراكز الإصلاح والتأهيل، لنضع القضاء أمام مسؤولياته، وليتحرك تجاه الحكومة كي تجد أماكن مناسبة لحشر تلك الاعداد الهائلة فيها، ولنحقق الحد الأدنى من المعايير الإنسانية. فالعهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية الذي وقعت عليه دولة فلسطين يقول في المادة رقم (10) فرع (1): " يعامل جميع المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية، تحترم الكرامة الأصيلة في الشخص الإنساني".
لا غرابة أن تشعر انك محشو داخل علبة مرتديلا اذا فتح احدهم احدها، وعبقت رائحتها وهي تدور على انوف الاخرين، ولا يحررك من تلك الروائح المضغوطة سوى أن يفتح ثان علبة سردين، فتشعر كأنك احد السمكات المصطفة بانتظام، كل ذلك لا يزول الا مع ملك الروائح، البيض المسلوك.