تسنيم صعابنه
رائحة شهية تنبعث من زوايا المطبخ، مأكولات شعبية مصفوفة على الطاولات، صنعتها أيادٍ فلسطينية وأبدعت في طهيها.
إنه منزل السيدة الفلسطينة ذات الأربعين عاماً «نوال جبر»، التي تقطن أحد المنازل الشعبية، وحيدة، ليس هناك من يُعيلها أو يسأل عنها سوى ابن أخيها، الذي يطلّ عليها مساءً.
في ليلة باردة تخلو من كل شيء سوى الفقر والحاجة، فكَّرت نوال في شيء ينتشلها من هذه المصاعب، فتواردت إلى ذهنها فكرة المطبخ الشعبي.
«لديّ يدان وعينان وعقلي في رأسي، لماذا أرضى بفَقري وأندب حظي؟
الفقر عاطل وسؤال الناس أعطل»، هكذا بدأت جبر حديثها.
بدأت نوال بطهي المأكولات الشعبية: (مفتول، كرشات، كبة، مسخن، والشيش برك، وورق العنب) من صبيحة اليوم الذي تبادرت إليها فكرة العمل، وشاركت الصور التي التقطتها لأعمالها على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، نالت أعمالها إعجاب الكثير من المحيطين بها، وهو ما شجعها على الاستمرارية في العمل.
انتشر الخبر بصورة خيالية داخل بلدتها عرابة، الواقعة جنوبي جنين، ثم تكاثفت الطلبات والتواصي عليها، ما جعلها تتوسع في أنواع الأطباق التي تُطهوها من طبخ ووجبات جاهزة (الشاورما، الهمبرغر، الزنجر، المعجنات، البيتزا)، بالإضافة إلى إعداد (اللبنة المدعبلة، المخللات والمكدوس والزيتون).
انتشرت أعمال نوال في فترة قصيرة، واشتهرت شهرة عالية، نظراً لما اشتهرت به من نظافة وأمانة عالية، ومذاق رهيب، استطاعت جبر أن تُعيل نفسها وتحفظها من خلال هذه الأعمال.
تقول جبر: التي تعمل في مجال إعداد وطبخ المأكولات الشعبية الفلسطينية، وبيعها للزبائن مقابل مبلغ مادي، إنها بدأت تتعلق بهذا العمل وتشعر بأن لها مكانة في مجتمعها، أحبت نفسها، وحياتها، وأحبَّت محيطها أكثر.
تراها تعمل بكل حب وسعادة، وتحرص دائماً على إعداد الطعام بمهارة، وتوفير الكميات المطلوبة، وفي الوقت المناسب، بالإضافة إلى إرضاء الزبون وكسبه كمصدر دخل.
وتؤكد جبر أن الإقبال عليها في شهر رمضان يكون أكثر، والكميات المطلوبة تزداد، خاصة أن ما يميز هذا الشهر هو اجتماع العائلة على مائدة واحدة عند حلول المغرب كل يوم؛ لتناوُل وجبة الإفطار الشهية، فتتفنن جبر في إعداد أشهى المأكولات، من مختلف الأصناف، ولجميع الزبائن.
وتنوه جبر أنها على الرغم من انعدام يد المساعدة لها أثناء إعدادها المأكولات فإنها ما تذمرت يوماً أو اشتكت، بل كانت تصنعها بحب، وتغمرها السعادة أكثر حين تتلقى توصية من أحد.
استطاعت نوال أن تكسب رضا زبائنها، حتى إنهم اتّكلوا عليها، حتى في العزائم التي تتكون من أعداد كبيرة، على الرغم من أنها تعمل وحيدة.
وتقول جبر إنها طهت أنواعاً عديدة من الطعام، لم تطهها من قبل، كان ذلك وفقاً لطلبات تلقتها من زبائن فضَّلت المحاولة على أن ترفضها.
استطاعت نوال من خلال هذا المطبخ الصغير أن توسع دائرة التعارف الاجتماعية التي تحيط بها، فامرأة ودودة مبتسمة مثلها لا بد أن تحب التعامل معها ثانيةً، وأضافت أن هذا المشروع الصغير غيَّر حياتها رأساً على عقب.
حين منحها فرصة أن توفر لنفسها المال وأن تحيا كما تحب، وأن تكون امرأة اجتماعية مرغوب بوجودها، وعزَّز ثقتها بنفسها أكثر، وقتل الملل واليأس الذي كان يحيط بها من كل صوب وحدب.
تقول جبر: «الحمد للَه الذي منَّ عليَّ بفكرة هذا المشروع، لم يُخيل لي يوماً أن يصل عملي إلى خارج منزلي، حتى أتوقع أن يصل إلى خارج البلدة.
وتشير جبر «أذكر أول توصية جاءتني من أراضي 48، لم أصدق نفسي قط، جلست بعد إنهاء المكالمة ما يقارب الخمس دقائق أفكر بواقعية الحدث».
وهكذا انتشرت أعمالها داخل عرابة والقرى المجاورة وبعض المعارف لأهل البلدة.
بعد ثلاث سنوات من العمل اضطرت جبر للخضوع لعملية عصب في كفها اليمنى، ما أدى إلى عدم قدرتها على إعداد الطعام الذي يحتاج إلى رَقّ أو ضغط بيدها اليمنى. ورغم ما تجده جبر في مهنتها من تعب وإرهاق، خاصة عندما يطلب منها تحضير ولائم كبيرة، إلا أنها تؤمن بأن الطبخ يحتاج إلى «نَفَسٍ طيب»، وتضيف: «الحياة ليست سهلة، والجميع يمر بوضع اقتصادي صعب، وبمجرد حصولي على المال فإن هذا الإرهاق يتلاشى».
وبعد فترة وجيزة انتشرت أعمالها أكثر وأكثر، حتى بدأت مشاركتها في الحفلات المدرسية، وتجهيز المناقيش والسندويش للمقاصف، وإعداد وجبات خاصة للمعلمات في المناسبات أو الأيام العادية.
وتشير جبر إلى أنها شاركت في العديد من الاحتفالات التي كانت تُقام في جامعة القدس المفتوحة- جنين، حيث كانت تستيقظ في صبيحة السادسة لكي تستعد وتنهي عملها خلال الوقت المحدد، وما تخلفت يوماً عن الطلبات التي تُعرض عليها، أو تتكاسل عنها، على الرغم مما تعاني منه من مرض الضغط وآلام كفها.
تشير نوال أيضاً إلى أنها تلقت العديد من عروض الشراكة من قبل المحلات التجارية وغيرها، لكنها رفضت رفضاً تاماً، لأنها لا تريد أن تقع في مشاكل.
وأضافت قائلة: «طوال الأعوام الماضية وأنا أعمل وحيدة على الرغم من صعوبة الوضع، الآن عندما تحسنت أحوالي يصبح العمل والرزق والاسم مشتركاً.. لا أرغب في ذلك أبداً».
وهكذا استطاعت جبر أن تكون نموذجاً للمرأة الكادحة، ذات الجبروت والقوة، التي اخترقت سقف التذمر كي تصل إلى المرغوب، حيث أكدت جبر من خلال عملها أن لجوء النساء للعمل المنزلي هو ظاهرة صحية، تعكس تغيراً في الفكر المجتمعي السائد، عن كون المرأة كائناً مستهلكاً، وحتى لا تشعر في أي لحظة أنها عالة على المجتمع، وهذا العمل سواء كان دافعه إعالة الأسرة أو زيادة الدخل أو حتى ملء وقت الفراغ فقط، فله أهمية كبيرة. هكذا أنهت جبر حديثها.
عربي بوست