وبعد أن انتهت الليالي العشر الأواخر ورحل شهر رمضان شهيدا صائما مغسولا بالدم والفاجعة، ومضى عيد الفطر السعيد ليس سعيدا، لا زالت غزة تجلس فوق دمها وجثث شهدائها وحيدة محاصرة، يتيمة وصابرة، معثرة وممزقة، عطشى وجائعة.
هل رأيتم ما رأيت، هي ليست ليلة القدر ولا تباشير يوم القيامة، الشهداء يتظاهرون في رام الله، خرجوا من التوابيت العديدة، وصلوا حاجز قلنديا العسكري، جاؤوا من القرية والمخيم والمدينة، براق الأغاني الحميمة، القدس تتقدم نحوهم: أرشدوني الى بلدي، خذو بيدي، أرشدوني الى جسدي ومسجدي، من يرد رياح الجحيم عن القيامة والأقصى والصلاة الحزينة؟.
رام الله تخرج بمسيرة ال 48 ألف وتهتف لغزة، الأطفال والنساء، الجرحى والمعاقون، الشباب والعمال والمزارعون والأطباء والمهندسون، الصيادون والمسعفون والطلاب والتجار والباعة، الشيوخ والرهبان والصحفيون والمحَرَرون، المعلمون والأمهات والحوامل والعشائر والفصائل، الأرامل واليتامى والأموات والأحياء، الملح والنار والهواء، الخبز والحب والجمال، الفرق الفنية والكشافة وصهيل الأغاني الشعبية.
من رام الله برقية مفخخة الى غزة: الأصابع تخرج من أكفها، النعناع من الجروح العميقة، الأحلام من كابوسها، الألفاظ من قاموسها، الأعلام والأشجار والأشعار والأفكار، الأسماء والألقاب والأشياء والأديان والشرائع، الناس تخرج للساحات والشوارع فيضا من النور، سدا من الإرادة والروح العنيدة.
برقية مفخخة من رام الله الى الشجاعية وبيت حانون وخزاعة وخانيونس ورفح وجباليا والشاطئ وحي الزيتون، تقول الأن كلامها الأخير لألة الموت ولدبابة الهمج الإسرائيلية: لسنا وسطاء بين دمنا ودمنا، لا فتح معبر يشبعنا، ولا صيد سمك في بحر لم يعد أزرق، يفيض بنا وبأولادنا في قيعانه الدامية.
الخيول تصهل الأن في الشوارع والحارات، وفي الجثث الباقية، الناس ظماى الى فضاء سياسي أعلى، كلما صرخت غزة ونهضت للذبح في الجولة الثانية.
رام الله تعرفهم وتعرف لعبة الموت عندهم، وتعلم أنهم قتلوا السلام والمصور والمفاوض ورجل الإسعاف والبائع الفقير والحقيقة والطفلة النائمة.
رام الله متخمة بالجراح وبالطلقات: راس غزة المقطوع بين يديها، عين أسد قلعها مستوطن في المنارة، حقل تفاح وتوت وقرية وذكريات الحجارة، جدار وسياج وبرج ودم وغاز ورصاص ومقاومة.
لا ترى رام الله موتا في غزة، بل ترى شبق وتوحش غير عادي للحياة، الناس يدفنون موتاهم صباحا ويستعدون للموت في الليلة القادمة.
لا يمر يوم الا وهناك مجزرة، لا يرتاح اللون الأحمر في غزة، يتحول من حزن الى فرح، ومن فرح الى حزن، لهذا يخشى الأعداء من طقسها ومن رملها وطبيعتها المتحولة.
برقية مفخخة من رام الله الى غزة: لحم الناس، طفلة تضيئ شمعة في كنيسة المهد، تدخل في لوحة البشارة لليسوع وتطير كملاك.
ولد يوزع القهوة في دوار مدينة نابلس صباح العيد، في جيبه حجر ومقلاع وتمرة من هناك.
رام الله ليست العمارات الشاهقة ولا المتنزهات الهادئة، ولا المؤسسات والمطاعم الفارهة، وليست رام الله الوزارات والمسميات والسيارات والحوارات العابثة، ليست الجميلة المطمورة بأموال التنمية ومشاريع تجميل الإحتلال، رام الله غاضبة... لا تراها، لكنها تراك.
برقية مفخخة من رام الله الى غزة، هي لا تسأل عن أسماء الشهداء، فهم واضحون واضحون، بل تسأل عن أسماء القتلة، ترفض أن يبقى القتيل هو الواضح والمتغير، بينما القاتل هو الغامض والثابت والمتملص من الحساب والعقاب في الدنيا والآخرة.
برقية مفخخة من رام الله الى غزة: سيكون القصاص، وتكون الأغنية، سنرفع عاليا موتانا شموساً لفجر عيدنا وعيدِك، كلنا سنكون أمام المحكمة الدولية والولاية القضائية العالمية، منا جثثنا ودمنا، صوت الفزع فينا، قيودنا، شهودا من شهودِك.
سيكون القصاص يا غزة، لا تجزعي من المحللين والسياسيين وتفاصيل الأخبار المريبة، لا تجزعي ممن يحمل وطنه في حقيبة، لقد ماتت الهزيمة، وانكسرت قيود الغزاة فوق قيودِك.
الحرب على غزة، حرب على القدس والحلم والتاريخ الوطني الفلسطيني، حرب على كل شريف وحر وجميل في الحياة، حرب على الحرية والعدالة الكونية، ومن حق غزة ان تدافع عن نفسها وتكسر حصارها، وتتقدم بلحمها المر وارادتها، وتسكب دمها وبرتقالها وترد الغزاة.
ومن حق غزة بعد ان احرقوا الارض والسماء من فوقها ، ان تحفر تحتها، وتستبدل شرايينها وامعائها بنسغ نباتها وجذورها، تتنفس عميقا في بطن الارض: رئتان من تراب احمر، قدمان من نخل عتيق، قلب من صخر وبرق وصوان، يدان من القاع الى الأعلى اشجاراً تقاوم الطغاة.
لن ننتظر يا غزة المسيح المنتظر، لا أمريكا ستغيثنا ولا هؤلاء المستسلمين للقدر، هنا عناق دموي وفاتحة للحقيقة، تبتدأ الأن من غزة الخليقة، شرق القمر والبحر من الخليل حتى الناصرة، القبور متشابكة، الأموات يتصافحون من وراء السياج، هدموا المسجد، لكننا نسمع الأذان من محراب الكنيسة.
برقية مفخخة من رام الله الى غزة، لا نريد من العالم أموالا ولا صناديق اغاثة، الشهداء قد رحلوا ولن يتمتعوا بإعادة البناء أو بشاطئ وميناء، كانت جريمة ابادة، والشهداء لا يرودن سوى ان نواصل الحياة بعدهم موحدين في الموقف والارادة.
برقية مفخخة من رام الله الى غزة، تصفيق الى غزة وتحية، بلا تأويل ولا تورية سياسية، شهداؤنا الذين قادنا دمهم الى هنا، هم ازهارنا السماوية الباقية هناك، صوت محمود درويش عندما كسر الصمت في كل الجهات
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى- ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص .. و انصرفوا
وعلينا ، نحن ، أن نحرس ورد الشهداء
و علينا ، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء