د.جوني منصور *
تتمحور المهمة المركزية التي أنيطت بالكتب المدرسية في بناء رواية قومية أو ذاكرة جمعية دائمة من أجل تفسير الهوية القومية وتجذيرها لدى المواطنين الذين يشكلون الجماعة المهيمنة أو الأغلبية العددية. فالكتب المدرسية تسعى إلى تثبيت الأحداث ومنع النسيان، والحفاظ على مخزون الذاكرة الجمعية.
وتعدّ المناهج المدرسية بشكل عام، وفي موضوع التاريخ بشكل خاص، من أهم مركبات المنظومة التربوية في مجتمعات العالم. وتعدّ المناهج وسيلة أساسية تعتمد عليها المؤسسات التربوية والتعليمية في تحقيق أهدافها، والتي هي في الأساس أهداف الدولة. فمن خلال المنهاج ينقل المعلمون قيم مجتمعهم ومبادئه وفكره وتصوراته المستقبلية إلى الطلبة الموكلين إليهم.
وللمؤسسة الرسمية دور أساس في توجيه واضعي المناهج من حيث رسم الأهداف والتوجهات والرؤى التي ترغب الدولة في نقلها إلى طلبتها. وهذا يتقاطع بقوة مع مؤلف الكتاب واستجابته للمنهاج، وأيضاً مع عملية أو مرحلة التطبيق داخل الصف من قِبَل المعلم والطلبة المتلقّين.
وبما أن المجتمع يتغير وينمو بموازاة ما يجري من حواليه سواء محلياً أو إقليمياً أو دولياً، كان لا بد من أن تتطور المناهج لتعكس استجابة المجتمع لهذه التغيرات.
أما الكتاب المدرسي فهو عبارة عن الشكل التنفيذي أو التطبيق العملي للمنهاج. وبكلمات أخرى، هو مرآة المنهاج بمركباته التطبيقية. ويقدم الكتاب المدرسي كل ما يحتاج إليه المعلم والطالب من مواد ومبنى تعليمي وتربوي لتحقيق الأهداف المرسومة.
والأهم من كل ذلك، أن الكتاب المدرسي هو الجهة الرسمية لتعلّم الطالب المواد المقررة وفقاً للمنهاج.
يعدّ الكتاب المدرسي مصدراً رئيساً بالنسبة للمدرسة، وتعتمد عليه في الأساس لنقل المعرفة والفعاليات التي أوردها المنهاج. ومن هذا المنطلق يعدّ الكتاب المدرسي اتفاقاً بين المؤسسة التربوية ممثلة للجهة الرسمية، والمعلم مطبق المنهج، وما ينعكس في الكتاب التعليمي المصادق عليه.
أما أهمية الكتاب المدرسي بالنسبة للطالب فتستند إلى ما يتركه من مؤثرات علمية وسلوكية على الطالب نفسه. ومن هذا المنطلق يعدّ الطالب الكتاب ركناً مقدساً من ناحية كونه مرجعاً وحيداً يعتمد عليه في الاستعداد للامتحان المدرسي والرسمي في نهاية المرحلة الثانوية.
دور الكتب المدرسية في «إسرائيل»
الكتب المدرسية هي أكثر من مجرد أداة لنقل «المعرفة». إنها تهدف إلى غرس الذاكرة الجمعية التي وضعت أسسَها الحركة الصهيونية، والتي تُشكل ذاكرة جمعية جديدة. لهذا تنقل كتب التاريخ والجغرافيا والتربية المدنية والآداب مثل هذه الأفكار.
تنطلق هذه الكتب من العصر الذهبي الذي عاشه اليهود قبل آلاف السنين، ثم المنفى، ثم ذروة الضحية في المحرقة إبان الحكم النازي في ألمانيا وخلال الحرب العالمية الثانية، ثم العودة إلى «أرض إسرائيل» (وفق الاصطلاح الذي تستخدمه الصهيونية و»إسرائيل» والكتب التعليمية والأدبيات الأخرى)، وتحقيق الخلاص لـ»شعب إسرائيل». في الوقت نفسه تنكر هذه الكتب على مدى ألفي عام تاريخ وجود سكان في هذه الأرض.
إذن، تبنى الكتب المدرسية على مبدأ الاستمرارية اليهودية في «أرض إسرائيل» دون انقطاع عنها (علما أن اليهود كشعب لم يتواجدوا على هذه الأرض إلا لفترات متقطعة أسوة بشعوب أخرى اجتاحت فلسطين وغابت عنها). في الوقت نفسه تعمل هذه الكتب بمنهجية مقصودة على إخفاء كل ما يمكن أن يدل على استمرار وجود الفلسطينيين على هذه الأرض منذ فجر التاريخ.
وتنكر الكتب المدرسية ألفي عام عاشها اليهود في المنفى، وفي الوقت نفسه تنفي وجود شعب في هذه الأرض طيلة هذه المدة.
وتسوق الكتب التعليمية تفسيراً مضحكاً لعبارة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»: «هذا لا يعني أن الأرض كانت خالية بالمعنى الحرفي للكلمة، إنما كانت خالية من أبنائها الأوصياء عليها تاريخياً بفعل وعد رباني، وكان يقطنها دخلاء ليست لهم اي أهمية».
فما تزال الكتب المدرسية تسمّي مدينة الخليل: «مدينة أسلافنا»، وذلك لتبرير استعمارها وطرد سكانها الفلسطينيين من منازلهم ومحالهم التجارية.
حظر تدريس «النكبة»
يتمثل أحد الأهداف التي تسعى الرواية الإسرائيلية-الصهيونية إلى تحقيقه، كما هي الحال في كل مرحلة من مراحل المشروع الصهيوني، في خلق هوية متجانسة تضم جميع الأعراق اليهودية في «إسرائيل» (شعار «أمة واحدة.. قلب واحد»)، وذلك في الوقت نفسه الذي تسعى فيه هذه الرواية إلى طمس الآثار التي تدلل على استمرار حياة الفلسطينيين على هذه الأرض من الناحيتين المادية والروحية، لكي تتلاشى الذاكرة التي تعلق في أذهان كلا الإسرائيليين والفلسطينيين. وما انفكت السلطات الإسرائيلية تمنع تدريس تاريخ الفلسطينين أو النكبة، حتى في المدارس العربية، وهو حظر جرت قوننته مؤخرا بـ «قانون النكبة» الذي شرعه الكنيست الإسرائيلي، وذلك بعد ذكر النكبة في النسخة العربية الإسرائيلية من كتيب «العيش معاً في إسرائيل» (كتاب جغرافيا وتربية مدنية للصف الثالث في المدارس العربية).
يعبّر «قانون النكبة» عن الخوف الذي يعم «إسرائيل» جراء تدريس الأطفال الفلسطينيين روايتهم، لكي لا يقفوا على السبب الذي يدفعهم إلى الأسى والحزن، مما يدفعهم إلى السعي إلى «استرداد» قضيتهم المسلوبة بالفعل. وتشعر المؤسسات التعليمية أن التسليم بالنكبة سوف يدمر «إسرائيل» بوصفها دولة يهودية، ويعطي المواطنين الفلسطينيين السبب للثورة عليها. أي أن المؤسسة التربوية في «إسرائيل» تعي خطورة تعليم النكبة ابتداء من استخدام المصطلح وبلوغاً إلى التفاصيل.
بين التاريخ والسياسة
تنوب الكتب المدرسية في «إسرائيل» عن الأيديولوجية الصهيونية ورسالتها بشأن الحقوق التاريخية لليهود في «أرض إسرائيل». وهذا هو الشرط الأساس الذي تضعه وزارة التربية والتعليم لإجازة هذه الكتب. لذلك يرى كثير من الباحثين أن الكتب التدريسية في «إسرائيل» هي نصوص متفرعة عن النص الصهيوني الأصل، وأنها تعبّر عن الفكر الصهيوني المتأصل في الأدبيات الخاصة بالحركة الصهيونية وتطورها وصولاً إلى تحقيق مشروعها بتأسيس كيان: «إسرائيل».
تلميع صورة اليهودي وتشويه العربي
تكمن أهمية الكتب التدريسية في تشكيل الهوية القومية، فبحسب الرواية الصهيونية، وفي حالة الجغرافيا، فإن «أرض إسرائيل» هي «الموقع الوحيد الذي يتحقق فيه قدر الشعب ومصيره». ويسعى تدريس التاريخ دائماً إلى تلقين الطلبة اليهود أن الحدث التاريخي الذي تَمثّل في بعث الشعب اليهودي «ترك آثاره على المشهد». ففي الوقت الذي تعيد فيه كتب التاريخ المقررة في المدارس الإسرائيلية إنتاج الرواية القومية اليهودية وتضفي الصفة الشرعية عليها، تعنى الكتب الجغرافية بتدريس الطلبة كيف يعرفون بلادهم وتمجيد الإنجازات الصهيونية في حقلَي الزراعة والاستيطان.
خطاب «الأمن» المقدس
يعدّ خطاب «الأمن» الخطاب الأبرز الذي يسود في «إسرائيل» في ما يتصل باحتلال فلسطين، حيث يعمل هذا الخطاب على شرعنة جوانب من السلوك الذي تسلكه «إسرائيل» تجاه الفلسطينيين الذين تدينهم وتشجبهم في إطار خطاب حقوق الإنسان.
فتحظى الأعمال الإرهابية في الكتب المدرسية في «إسرائيل»، وأعمال تهريب الأسلحة التي ارتكبتها منظمات وعصابات سرية مثل «الهاغاناه» و»الأرغون» ضد الاحتلال البريطاني وضد حركة المقاومة التي خاضها الفلسطينيون في مواجهة الصهيونية قبل إنشاء «إسرائيل»، بالتمجيد في الخطاب الذي يتناول تحرر اليهود وخلاصهم.
ويستهدف الخطاب المناهض للعرب المسلمين في جانب كبير منه إلى عدّهم «إرهابيين» و»ضد حقوق الإنسان»، و»متخلفين» في مغهومهم للحياة وفي تعاطيهم مع الشأن اليومي.
صور «النمذجة»
تكثر في الكتب التعليمية نماذج من الصور النمطية، مثل الفتيات المسلمات المحجبات مقابل اللاتي لا يرتدين الحجاب. فالمحجبات متخلفات ومحافظات ومتشددات وقدمن من عائلات يرينن الحياة المعاصرة خطراً على وجودهن، في حين أن غير المحجبات حديثات، ومتطورات ويعشن أسس ومركبات العصرنة!
وفي ميدان «النمذجة» (Modality)، جاء في كتاب «القرن العشرون» الذي يدرَّس في المدارس الاسرائيلية (ص195): «يقول بعضهم إن العرب طُردوا من ديارهم، ويقول آخرون إنهم هربوا منها. ولا يعبّر هذان التفسيران سوى عن خرافات».
لهذا يمكن للنصوص الرسمية –وهي الكتب المدرسية في هذه الحالة- استخدام مصادر النمذجة لفرض وجهة نظر تصعب معارضتها.
مفاهيم الإقصاء
تساهم الصور النمطية في تعزيز التحيّز، وتتبنى نزع الصفة الشرعية، وتعمل على تصنيف الجماعات إلى فئات اجتماعية سلبية تتسم بالتطرف، بحيث يتم إقصاؤها من الجماعات الإنسانية التي يُنظر إليها على أنها تتصرف ضمن حدود القواعد و/ أو القيم المقبولة.
ولا تحتوي الكتب المدرسية الإسرائيلية، حتى بعد «أوسلو»، على أي جانب ثقافي أو اجتماعي إيجابي من حياة الفلسطينيين أو عالمهم، سواء كان ذلك نصاً أو صورة. فلا ذكر لأدب أو شعر، أو إشارة إلى التاريخ أو الزراعة أو الفن أو العمارة أو التقاليد والأعراف والعادات الراسخة منذ فجر التاريخ. ولا يتضمن أي كتاب أي صورة فوتوغرافية للإنسان الفلسطيني، بل تمثله هذه الكتب في صور عنصرية أو صور تصنيفية تحطّ من شأنه وقدره وتسمه بسمات الإرهابي واللاجئ والمزارع البدائي المتخلف الذي يرفض مواكبة العصر. وهذه هي «المشكلات الثلاث» التي يمثلها الفلسطيني بالنسبة لـ»إسرائيل».
أداة لتصنيف الفلسطينيين
تستجيب الكتب التعليمية في «إسرائيل» إلى سياسات التصنيف التي تتبعها وتتبناها المؤسسة الحاكمة. فهناك «الإسرائيليون» أو اليهود، وهناك غير اليهود بمن فيهم من هم ليسوا عرباً. وهو ما يكشف عن خطاب عنصري.
هذا التصنيف/ التمييز بين اليهود وغير اليهود، يساهم في تأسيس جماعة داخلية يهودية لا تكون المهيمنة فحسب، بل تبدو في صورة أكثر واقعية، ذلك أن لها اسماً متميزاً. كما يساهم في تهميش وإخضاع المواطنين الفلسطينيين بوصفهم جماعة خارجية لا تُعرف إلا على نحو سلبي، فهي «جماعة غير داخلية».
ويوظَّف هذا التقسيم في كتب الجغرافيا ليتضمن معنى الاختلاف بين التقدم والتخلف، كما يجري تصويره على الخرائط والرسوم التوضيحية والرسوم البيانية للدلالة على عدم اكتمال المشروع الصهيوني الذي يستهدف «تهويد» الأرض. فعلى سبيل المثال يتضمن كتاب «المستوطنات في المكان» خريطة تبين «المناطق الريفية في إسرائيل»، حيث تُصوّر المستوطنات اليهودية باللون الأزرق والقرى العربية بالأحمر. ويعني مصطلح «الوسط غير اليهودي/ العربي»، مركزية المواطنين اليهود وهامشية الأقلية العربية. ويتضمن هذا المسمى في كتب التاريخ والمدنيات أيضاً، إشارة إلى التمييز بين الروايتين الصحيحة والمغلوطة: فالرواية اليهودية هي الصحيحة، بينما العربية هي الخاطئة.
ومن الأمثلة على ذلك: «تحولت دير ياسين إلى خرافة في الرواية الفلسطينية، وخلقت صورة سلبية مرعبة للمحتل الصهيوني في عيون عرب إسرائيل» (كتاب «نافيه»، 2009، ص112).
وبعد هذا المثال، يورد المؤلف تعريفاً لـ»الخرافة»، حيث يقول إن «الخرافة هي عبارة عن قصة تتحول إلى رمز ذي معنى في حياة شعب ما، وهي تستند إلى الواقع وتشوهه في الوقت نفسه. أما الرواية فهي قصة الشعب على نحو ما يدركها الناس ويحكونها». فعادة ما تُقدّم الأفعال الإسرائيلية في كتب التاريخ على أنها أفعال صحيحة من الناحية الأخلاقية وأنها تتناسب مع القواعد العمومية واليهودية. بينما تقدّم الأفعال الفلسطينية على أنها نزوية أو شريرة. وفي هذا الإطار: تردّ «إسرائيل» على «العدوان العربي»، وتشن «العمليات» ضدهم، وتخلق الأعذار التي تبرر «إجراءات الردع العقابية» ضد «الإرهاب الفلسطيني». وفي المقابل، يقتل «العربُ» الإسرائليين، ويرتكبون الأعمال الإرهابية ضد «إسرائيل»، وينتقمون منهم ويوظفون ما يسمونه «المعاناة» في الدعاية ضد «إسرائيل».
الإنكار الكلّي للفلسطينيين
تكاد كتب التدريس من الصف الأول وحتى الرابع لا تذكر الفلسطينيين، سواء المواطنين في «إسرائيل» أو الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، سواء في نص أو صورة أو خريطة. وهذه تعكس المواقف الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين بمجموعهم. وفي الصفوف الأخرى تأتي الكتب على ذكرهم ليس بمسماهم، بل على أنهم «غير اليهود». وهذا إنكار مقصود لوجودهم التاريخي وحضورهم الفعلي في أرضهم.
رفض حق العودة
ترفض «إسرائيل» حق العودة للفلسطينيين، من خلال النظر إلى خروجهم سواء أكان من خلال الطرد أم هرباً من عدوان اليهود، بوصفه «هروباً دافعه الخوف والفزع»، وأن الفلسطينيين «تخلّوا» بسببه عن منازلهم وأملاكهم بمحض إرادتهم! وغالباً ما يصوَّر الفلسطينيون من سكان الأراضي المحتلة بوصفهم «إرهابيين»، وهذا يعني استمرار السيطرة وفرض القيود على الحركة لمنع العودة.
إن منح حق العودة للاّجئين الفلسطينيين يعني الاعتراف بالرواية التي يسردها الفلسطينيون عن النكبة والسماح لها بالوجود في الخطاب والواقع الإسرائيليين. وما تزال الجهات القائمة على جهاز التعليم في «إسرائيل» بعيدة عن القبول بهذا الاعتراف، الذي لا يُستغنى عنه لتحقيق السلام والمصالحة بين الشعبين في ما لو وصل الطرفان إلى ذلك في المنظور القريب، وهذا يبدو من المستحيلات.
الانحياز للرواية «الإسرائيلية»
تتبنى الكتب التعليمية في «إسرائيل» الرواية «الصهيو-إسرائيلية» لما حصل في العام 1948 على وجه التحديد وفقاً للشعور بالتفوق، فاليهود يمثلون الغرب، وبالتالي التقدم، في حين أن العرب يمثلون الشرق، أي مناطق التخلف، وهذه نظرة كولونيالية صرفة ليست بحاجة إلى برهان.
وتنظر تلك الكتب إلى العرق الأدنى بوصفه عرقاً مختلفاً وغريباً في جوهره. فالمجتمع العربي «مجتمع تقليدي، من طبيعته مقاومة التغيير ومعارضة التجديد، ويبدو ان التحديث يعدّ خطيراً بالنسبة له».
كما تعزز الشعور بالأحقية، مثل قانون العودة لليهود، والحقوق الاستثنائية في الضريبة والبلديات، وحق اليهود في «أرض إسرائيل» الكاملة الذي يجري التعبير عنه في الخرائط المدرسية والكتابية، وأيضاً في خرائط «إسرائيل» التي تتضمنها الأجندات التي توزعها الشركات التجارية على زبائتها. في حين يتم رفض الاعتراف بأي حق من حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه.
وتبدي تلك الكتب خوفاً وتشككاً من «العرق الخانغ» (العرب) الذي يمكن أن يطمع في الحقوق الحصرية التي يملكها «العرق المهيمن».
لهذا، يجري إقصاء 20% من مواطني «إسرائيل»، وهم من العرب الفلسطينيين، وعدّهم -كما يرد في الكتب الدراسية- هامشيين ومتخلفين وعدائيين وعنصراً مزعجاً، على الرغم من الجهود التي تبذلها «إسرائيل» من أجل تحديثهم!
لهذا يعدّ الإقصاء والتهميش من الصور النمطية التي يفرزها السلوك العنصري تجاه الأغيار (غير اليهود في التوراة).
طرد الفلسطينيين
لا تخفي الكتب التي وُضعت بعد «أوسلو» الحقيقة القائلة بتنفيذ بعض أعمال الطرد الرسمي. ولكنّ أيّاً منها لم يذكر وجود خطة رسمية تقوم على أسس التطهير العرقي الذي نُفذ في العام 1948 بحق الشعب الفلسطيني. ويُعزى «الخروج» (هكذا تسميه الكتب التعليمية) إلى الفشل الذي حالف القيادة الفلسطينية، والذي أفضى بالفلسطينيين إلى «التخلي» (هكذا في الكتب التعليمية في «إسرائيل») عن قراهم ومدنهم.
وتقدم تلك الكتب الخروجَ على أنه أحد التداعيات الإيجابية التي أفرزتها حرب 1948. ويحاك الإنجاز الذي تحقق بـ»تفريع الأرض من سكانها العرب» في نصوص، ولا سيما في روايات حول المجازر التي ألمّت بالفلسطينيين والتي تجري شرعنتها من خلال النتائج التي أفضت إليها.
من الأمثلة على ذلك ما جاء في كتاب «رحلة في الماضي»: «كان اجتثات العرب، الذين بلغ عددهم 600 ألفاً، من بيوتهم، نتيجة مباشرة للحرب وليس ثمرة خطة أعدها اليهود أو العرب سلفاً. لكن ترحيل العرب من اللد والرملة حصل على التفويض اللازم من القيادة السياسية».
«التفويض من القيادة السياسية» هو عبارة عن شرعنة طرد الفلسطينيين، أي أنه شر لا بد منه فرضته الحرب وليست رغبة القيادات الصهيونية ومخططاتها.
تستعمل الكتب التاريخية المدرسية كلمة «مأساة» لما حصل في العام 1948، أي دون تحميل الطرف الإسرائيلي مسؤولية ما، في حين أنها لا تستعمل مصطلح «النكبة» بالكلية، كي لا تصل إلى خط التماسّ الذي يُلزمها بالاعتراف بما اقترفته أيدي زعماء الصهيونية و»إسرائيل».
ويؤكد «بار نافيه»، واضع أحد كتب تعليم التاريخ بعد «أوسلو»، أن خروج العرب من فلسطين جاء بالفائدة على «إسرائيل»، إذ عزز الطابع اليهودي لـ»إسرائيل». ويلوم «بار نافيه» الدول العربية لإحجامها عن دمج اللاجئين في بلدانها، وإصرارها على تخليد أوضاع اللاجئين المزرية. وهذا يتناسب مع ما صرح به «موشي شاريت» وزير خارجية «إسرائيل» بعد إقامتها: «في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كان هناك الملايين من اللاجئين في جميع أنحاء أوروبا، ممن أُجبروا على ترك منازلهم، ولكنهم أعادوا تأهيل أنفسهم». ويسأل «بار نافيه» الطلبة في نهاية الفصل الخاص بالعام 1948 وخاصة اللاجئين: «لماذا لم يلْقِ الفلسطينيون بالاً لإعادة تأهيل أنفسهم؟ لماذا لم تساعدهم الدول العربية في ذلك؟».
أما بخصوص وصف مشكلة اللاجئين، فإن الكتاب المذكور يناقشها على مدى ثلاثة صفحات ويعدّها «فراراً جماعياً» للعرب لم تكن قيادة الهاغاناه والقيادة الصهيونية تتوقعه ووجدت صعوبة في فهم الدوافع التي تقف وراءه.
أما كتاب «وجه القرن العشرين»، وهو أيضاً تعليمي للمرحلة الثانوية، فيتطرق إلى نتائج خطة «د» بكونها قد عززت القوة العسكرية التي يتمتع بها المجتمع اليهودي، وشكلت ترابطاً إقليمياً يهودياً استراتيجياً، وتركت آثاراً دبلوماسية بأن «إسرائيل» قوية من الناحية العسكرية وبإمكانها أن تلعب دوراً في المنطقة.
مقابل ذلك، تشن الكتب التعليمية حملة شعواء على العرب بتحميلهم مسؤولية ما جرى: «جلب العرب على أنفسهم الهلاك حينما حاربوا اليهود، ورفضوا قبول خطة التقسيم، فانتهت الحرب بهزيمتهم وبتشريد آلاف اللاجئين الذين تركوا ديارهم بسبب عدم رغبة الجمهور العرب الفلسطيني وقيادته في التوصل إلى اتفاقية».
وتشرح الكتب أن تنفيذ الخطة «د» كان يقضي بطرد بعض القرى، وأخرى بهرب سكانها منها، وكان الطرد يجري مباشرة وأحياناً بصورة غير مباشرة من خلال نشر الشائعات عن الفظائع التي يرتكبها اليهود. ويشدد كتاب «وجه القرن العشرين» على أن المواطنين الإسرائيليين أجمعوا على المطالبة بحرمان اللاجئين من حق العودة. وعندما قررت الأمم المتحدة في نهاية المطاف وجوب عودة بعض اللاجئين، فلم يكن الوقت في صالحهم، فالقرى كانت قد سُوّيت بالأرض، والبيوت العربية التي بقيت بعد عمليات التدمير نالت التسمية القانونية «ممتلكات مهجورة»، وجرى إسكان المهاجرين اليهود في المناطق المهجورة.
وبحسب القواعد الإسرائيلية، بما أن الفلسطينيين تخلّوا عن أرضهم، فهم لا يستحقون أن يستعيدوها. كما يتناقض التخلي عن الأرض مع قاعدة الصمود، التي تتبناها الحركة الوطنية الفلسطينية، والتي تعني التشبث بالتراب الوطني مهما كلف الثمن. يحاول جهاز التعليم في «إسرائيل» تصوير أن الفلسطينيين هم الذين يتحملون مسؤولية الأجيال لأنهم تخلّوا عن الأرض ففقدوا حقهم في العودة إليها.. وأنهم لم يتبنّوا أسس الصمود، لهذا تخلّوا بأنفسهم عن الأرض. ومن الطبيعي أن مثل هذا التوجه يشوه صورة العرب والفلسطينيين بكونهم أصحاب حق، ويقدمهم على أنهم خذلوا أنفسهم.
مكانة منظمة التحرر الفلسطينية
رغم اتفاقات «أوسلو» التي من المفروض أن تساهم في توجيه الكتب التعليمية، كما الرأي العام، إلى قبول الفلسطيني والاعتراف به، فإن أكثر الكتب انفتاحاً (هكذا يعدّونها في «إسرائيل») تصف منظمة التحرير الفلسطينية بأنها مصدر للهجمات الانتحارية في «إسرائيل»، ونواة لأ»الإرهاب العالمي» (كتاب نافيه، ص263).
ويضيف الكتاب نفسه عن المنظمة: «في الأردن ولبنان، أقام الإرهابيون الفلسطينيون دولة داخل الدولة، وأثاروا دوامة من النزاعات بين المنظمة وإسرائيل، وبين المنظمة والجيش اللبناني، وبين المنظمة والكتائب، وهذا ما سبّب الحرب في لبنان»(ص235).
الفلسطينيون في «إسرائيل»
جاء في كتاب «الأزمنة الحديثة» (ص289): «من العوامل الأخرى التي أجّجت النزاع أن العرب الذين بقوا في «إسرائيل» يربطون أنفسهم، على الدوام، بالأمة العربية من النواحي الثقافية والاجتماعية والتاريخية، وينظرون إلى أنفسهم بوصفهم جزءاً من الشعب الفلسطيني الذي يملك صلةً بفلسطين (هكذا يسمي الفلسطينيون «أرض إسرائيل»)».
الخطاب اللفظي/ البصري
نادراً ما يُصوَّر الفلسطينيون، والعرب بعامة، على أنهم متطورون وحداثيون، بل يقدَّمون بصور نمطيّة تحمل آراء مسبقة تقوم على أنهم يمثلون «مشكلات» و»تهديدات» للإسرائيليين. ويؤدي هذا التنميط (stereotypization) إلى تشكل الخطاب العنصري التمييزي. على سبيل المثال تصوير الفلسطينيين بأنهم بدائيون، وأنهم خارجون عن القانون، وأنهم لصوص، وسوى ذلك من الأوصاف التي تحطّ من قيمتهم ومكانتهم. الرأي