الرئيسية / الأخبار / فلسطين
أخيراً، عثرت الصابرة على مكانها في السماء! بقلم بسام كعبي
تاريخ النشر: السبت 02/08/2014 12:08
أخيراً، عثرت الصابرة على مكانها في السماء! بقلم بسام كعبي
أخيراً، عثرت الصابرة على مكانها في السماء! بقلم بسام كعبي

 اتكأت على جدران أحزانها، وذرفت دمعتها الأخيرة وهي تسمع قراراً جائراً بصلب نجلها عاصم ثمانية عشر عاماً على قضبان السجون. ترى هل تبقي في مقلتيها دمعة فرح قادمة لتعانق نجلها محرراً؟ هل بقي متسع في أيام عمرها تشعلها انتظاراً لعودة آخر أحبائها إلى حضنها؟ هل فاض قليلاً نهر أحزانها ولم يعد قلبها يحتمل مرارة أكثر. كيف شقت الأحزان جدول يومياتها ورسمت خارطة حياتها؟

لم تبدأ طفولتها بعد، ولم تكمل صفها الثاني في مدرستها الصغيرة، عندما اعتدى الغاصب على بيوت قريتها "السوالمة" الملاصقة لبحر يافا. هجّر أهلها وشتت شمل أسرتها ثم أجهز على ما تبقى من البيوت المسالمة، قبل أن يحطم جدران المدرسة ومقاعدها المتواضعة، ويضيف القرية إلى مئات المواقع الفلسطينية المدمرة. أجبرها سلاح العصابات على المغادرة شرقاً وسط الاشتباكات المسلحة، لتكتشف قسوة اللجوء في وطنها والمذاق المر في وجبة وكالة الغوث.
لم تكمل السابعة عشرة عندما تزوجت واستقرت في مخيم بلاطة، وعلى مدار عشرين عاماً من حياتها الزوجية أنجبت اثني عشر رضيعاً، عاش ثمانية ودفنت أربعة، وواصلت حربها ليصمد الأحياء من أبنائها. مع كل فجر تنهض لتتحدى مخالب الفقر، وتصد بوابة الجوع، وتشحذ ذاكرة أطفالها بهويتهم وتاريخ قريتهم التي باتت رماداً. تحدثهم عن نهر العوجا الذي يغسل أراضيهم الزراعية، وعن بياراتهم وبيوتهم، وعن براءة طفولتها، وهدوء المكان وتسامح الأهالي.
تحيك لصغارها في الليل ما تيّسر من ملابس بسيطة لعلهم يواجهون قسوة الشتاء، وعند الفجر تضع إبرة الحياكة جانباً وتنطلق إلى عين بلاطة لتصنع من ماء صفيحتها مخلوطاً بدقيق وكالة الغوث، لفائف الزعتر. ينهض الأبناء على رائحة الخبز، يتناولون وجبتهم ويتجهون إلى مدرستهم المجاورة، تحرسهم بدعواتها وصلواتها بأن يعبّد الخالق طريق نجاحهم. تجهز وجبة متواضعة لزوجها ليسد بها رمق جوعه قبل أن يفترسه صاحب المصنع عند الصباح، ويتغذى طوال النهار على نسيج عضلاته قبل أن يمنحه أجرة لا تغطي احتياجات متواضعة لأسرته!.
على بوابات الأربعين من عمرها، اختتمت سنوات الإنجاب، وتلقفت آخر عناقيد الحب؛ عاصم في اليوم الأول من العام 1978. شَعرتْ بفرح غامض وهي تحتضن رضيعها وتستذكر رحلة تشردها القسري تحت تهديد سلاح المغتصب منذ ثلاثين عاماً. ترى هل تخبّئ السنوات المقبلة أياماً أكثر قسوة من التي فارقتها؟ قبل أن يكمل عاصم عامه الثالث، اعتدى الاحتلال في مطلع أيار عام 1980 على بيتها المتواضع، حجز أفراد أسرتها وجمع بقايا أثاث محطم في شاحنة عسكرية وألقى بهم في مخيم عقبة جبر بجوار أريحا، تحت ذريعة أن نجلها أحمد (16 سنة) أطلق النار على حافلة لجنود الاحتلال.
مكثت في لجوئها الجديد أسبوعين، وقاومت مع زوجها وأبنائها الصغار كل محاولات الاحتلال لإبعاد أسرتها إلى الأردن، وأعلنت إضراباً عن الطعام. وبفعل حركة تضامن واسعة استندت إلى رفض العقوبات الجماعية، عادت منتصرة إلى "منزلها"، لكن بريق انتصارها خطفه حكم بالسجن الفعلي لمدة اثني عشر عاماً بحق نجلها المقاتل أحمد، في حين التصق بآخر العنقود عاصم لقبه الجديد (أبو جبر) وقد تمدد اسبوعين تحت شمس المخيم الحارقة.. هكذا جهّز عاصم مبكراً شرطه الأول للالتحاق بالمقاومة المسلحة عندما عثر على اسم حركي.
منذ منتصف العام 1980 بدأت رحلتها المنتظمة إلى السجون. كانت تمتلك ساقين فولاذيتين وإرادة صلبة، وقد طاردت نجلها أحمد في كل سجون الاحتلال. ليلة الزيارة لا تعرف طعماً للنوم، ومع ساعات الفجر الأولى كانت تضع قدمها في حافلة (الصليب) المتجهة إلى السجون المختلفة جنوب فلسطين المحتلة وغربها. كانت تدقق طويلاً في متغيرات وجه نجلها، وقد أخذ الفتى المقاتل يسابق سنوات عمره نحو الرجولة. تعود إلى بيتها منهكة بعد زيارة شاقة للمعتقل، لكنها تتابع شؤون أسرتها واحتياجات أفرادها.
مع انطلاقة الانتفاضة الكبرى في التاسع من كانون أول 1987 قضت سبع سنوات ونصف من الركض خلف أسيرها أحمد من سجن إلى آخر، لكنها في اليوم الثالث للانتفاضة ودعت "سلفتها" وصديقتها أم أسعد التي غادرت وهي تتلمس رصاص المحتل في قلبها. تأملت حجم حزنها وهي ترقب غياب صديقتها في رحلتها الأبدية إلى السماء، ولمست مدى آلام صغارها وقد فارقتهم إلى الأبد.
وبعد الجنازة اكتشفت أن رصاص المحتل نال أيضاً من خاصرة نجلها الرابع عصام، وعلمت أنه يرقد في مستشفى الاتحاد بنابلس بجوار ابنة عمه هناء التي خطف الرصاص ذاته إحدى كليتيها. تشافى عصام من إصابته, ونقلت ابنة عمه إلى الأردن لمتابعة وضعها الصحي والحيلولة دون تهديد كليتها الوحيدة. لكن معتقل الفارعة، شرق نابلس، ثم النقب كانا بانتظار نجلها عصام.
في منتصف عام 1988، وبعد ستة أشهر على الانتفاضة، واجهت ما لم يخطر ببالها قط: نجلها البكر يقبع في سجن جنين، نجلها الثاني باسم في زنازين معتقل رام الله، نجلها الثالث أحمد في سجن عسقلان، ونجلها الرابع عصام رهن الاعتقال الإداري في سجن النقب الصحراوي، فيما يصر نجلها عاصم الذي تجاوز العاشرة على مرافقتها عند زيارة كل معتقل. من أين لها أن تعلم أن الصغير سيشب سريعاً ويحجز "برش" شقيقه أحمد لسنوات طويلة؟ ارتاحت قليلاً صيف 92 عندما أنهى نجلها أحمد سنوات حكمه الطويل، قبل أن تستأنف قلقها على مصير أبنائها من مداهمات في الليل، واحتجاز وتكرار الاعتقال الاداري لنجليّها.
على إيقاع انتفاضة القدس أواخر أيلول 2000 اشتد عود عاصم، وراح يبحث عن أعلى سقف لأشكال المقاومة وأعقدها, فانخرط بالجناح المسلح للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونفذ مهماته, أصبح مطارداً للاحتلال، وباتت لا تعرف مذاقاً للنوم. حاصرتها الأوجاع وزحفت على ساقيها، ولم تعد تقوى على المشي أو تركض خلفه لتبحث عنه في مخابئ الرفاق. بات عاصم طريداً وهدفاً للاغتيال، وباتت حزينة تسأل عن سر خيانة ساقيها. في الركض خلفه
مع سقوط بغداد المدوي في قبضة المحتل الأميركي (2003)، وقع عاصم في قبضة المحتل الإسرائيلي، وبدأت رحلة جديدة من القلق ومطاردة أخباره في ظروف حصار خانق. بعد ستة شهور على اعتقاله، تمكنت من اجتياز قسوة الطريق من بلاطة إلى سالم شمال جنين، لحضور جلسة المحكمة العسكرية للنظر في لائحة اتهامه. كانت سعيدة بمشاهدته متماسكاً, وحزينة لأنها لم تتمكن من معانقته. وعادت أدراجها عبر طرق صعبة وحواجز كثيرة, وقضت ساعات طويلة في سكة عودتها.
وفي الأسبوع الأول من نيسان (2004) عادت مرة أخرى منهكة بعد رحلة يومين من بلاطة إلى محكمة سالم العسكرية شمال الضفة، وصلت بيتها بشق الأنفس، يشعل قلبها حكم بالسجن ثمانية عشر عاماً بحق عاصم. ترى هل تستطيع أن تصل إليه لزيارته في سجنه؟ هل تساعدها صحتها المتعثرة على ذلك؟ أرجو أن يصمد قلب أمي ولو قليلاً في مواجهة هذه المحنة، وتتمكن من زيارة شقيقي في سجنه. ادعوا معي لقلوب جميع أمهات الأسرى بعمر مديد.
ب ك
ملاحظة: أعيدُ معتذراً نشر النص الذي دونته منذ عشر سنوات تقريباً، وقد رحلت نجمتي في الثامن والعشرين من تموز الماضي؛ في اليوم الأول لعيد الفطر الجريح. أعترفُ الآن أنها لم تكن استثنائية وقد خطفت بعضاً من صلابة جميع أمهات الأسرى، ونالت شرف مواصفاتهن في الصبر والكبرياء والعض على الجراح.

 

 
تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017