عليك أن تموت، يجب أن تموت..كانت هذه الكلمات أقسى ما يمكن لأم تتخبط في آلامها أن تخاطب بها طفلها الذي اختطفه المرض وجعله طريح فراش في مركز استشفائي لسنوات عرضة لشتى أنواع الإساءة النفسية والجسدية.
العالم – منوعات
فقط من عاش أو يعايش معاناة مارتن بيستوريوس، الطفل الذي فقد كل شيء فجأة في ربيعه الثاني عشر، ليعيش حبيس جسده لسنوات، هو من يدرك القوة التي تكمن في جسد طفل صغير.
طفل فقد كل شيء .. ليس فقط في عجزه عن تحريك يديه وقدميه للعب والجري والتعبير عن مشاعره النفسية، بل حتى مشاعره المادية كإحساسه بالجوع والشبع والرغبة في اللعب أو الملل .
لا شيء حتماً أسوأ من أن تكون حبيس جسدك وفكرك، وتعيش في مجال شخص آخر ليقرر عنك متى وماذا يجب أن تأكل أو أن تلبس، حتى لو كانت والدتك التي تبذل قصارى جهدها لفهم رغباتك، ولكنها تفشل في غالب الأحيان.
منحتني قصة مارتن شخصياً أملاً كبيراً وإيماناً أكبر بقدرة وقوة الروح الإنسانية على الاستشفاء، خاصة أننا نكاد لا نجد في إعلامنا العربي ما يبعث الأمل ويلهم الصبر الجميل لأولئك الذين يعيشون بيننا مفتقدين صوتاً للتعبير عن معاناتهم وذويهم بسبب الإعاقة النفسية الحركية.
من الضياع الكامل .. إلى الحياة من جديد
بدأت رحلة الصبي مارتن نحو المجهول باحتقان بسيط في الحلق، تلته ساعات طويلة من النوم وانقطاع عن الأكل وفقدان القدرة على الحركة تدريجياً، فشل الأطباء في تشخيص حالة الغيبوبة الافتراضية والشلل الدماغي الذي أصابه بشكل دقيق وفهم السبب وراء تحول طفل مفعم بالحياة والصحة إلى آخر بالكاد يشبهه … ذكرى طفل!
فببساطة شديدة؛ بعد أن توقف جسد الصغير عن أدائه الوظيفي، توقف عقله أيضاً عن تذكر الأحداث في حياته والوقائع والوجوه، تناوب أفراد أسرة مارتن على رعايته بعد أن قيل لهم أنه أصبح يحمل وعي وذكاء رضيع ذي ثلاثة أشهر غير واع بمحيطه، ومن الأفضل أخذه إلى المنزل وإحسان معاملته حتى تحين وفاته.
ومن غرفته انتقل إلى سرير آخر أكثر تناسباً مع حالته الصحية بمركز للرعاية، حيث سيمضي أياماً أصعب مما يمكن تخيله.
بمرور الوقت استرجع مارتن وعيه وإحساسه بمحيطه، فصار يشعر بكل شيء حوله وينتبه لأدق التفاصيل، ولكن لم يكن يملك أي وسيلة للتعبير عن ذلك، كان القيام بمراقبة الظل وأشعة الشمس في زاويا الغرفة طوال النهار تمريناً ذهنياً لإيقاظ قدراته الفكرية ووسيلته لمعرفة الوقت ومواعيد زيارة أهله!
لم ينتبه أحد من المحيطين من معالجين أو أفراد أسرته إلى إمكانية استرجاعه لوعيه بالكامل، بل لم يؤمن أحد بذلك أصلاً، فبالنسبة لهم هو شبه موجود، ما زاد من حدة معاناته وافتقاده للتواصل الإنساني.
حبيساً لجسده تحول مارتن إلى الصبي الشبح الذي كان دائماً هناك ملقى على سرير أو كرسي متحرك لمشاهدة مسلسل بارني الكرتوني، حيث الأطفال يلعبون ويقفزون في حين هو محاط بأطفال آخرين مثله قابعين في أمكنتهم بلا حراك.
في وضعيته تلك بات مارتن ضحية للإساءة الجنسية، الجسدية واللفظية لسنوات حيث شاهدها تمارس عليه وعلى أطفال في نفس الظروف الصحية!
لا أحد حتماً يستحق ما حصل مع هذا الصغير، معاناة يومية استمرت لاثنتي عشرة سنة إلى أن لاحظت معالجة بالمركز تفاصيل لم ينتبه لها أحد وآمنت بعمق بوجوده الواعي داخل جسد مشلول، فطالبت بإخضاعه لاختبارات تواصلية خاصة، تمكن بعد ذلك بوقت وجيز من استعمال برنامج خاص على الحاسوب من أجل التعبير، كان ذلك بمثابة الرجوع من غياهب الموت البطيء والنسيان.
من كان ليعتقد أن ذلك الطفل في جسد مشلول سوف يعود يوماً من الظلام ليحكي قصته الغريبة بنفسه في كتاب احتل المرتبة الرابعة في لائحة أعلى نسبة مبيعات بنيويورك سنة 2011، أسماه “الصبي الشبح”، طبع عدة طبعات وترجم الى عدة لغات حول العالم!
تمنّت له أمه الموت يأساً من شفائه.. فأصبح شخصية عالمية مُبهرة
إن كان الإنجاز والإبداع يولدان فعلاً من رحم المعاناة فهذه القصة الملهمة خير دليل على ذلك. أينما بحثتم في منابر الغربي بشتى أنواعه، فسوف تجدون العديد من التحقيقات الصحفية والمقابلات والحوارات التلفزيونية مع مارتن، وللمزيد من التفاصيل يبقى الاطلاع على كتابه خير مصدر طبعاً للاستلهام من قصة إنسان يدرك أكثر من أي شخص قيمة أن نملك جسداً، وعياً وصوتاً للتعبير عن ذواتنا وتحرير مكنونات أرواحنا.
بإرادته القوية وعزمه غير مجرى حياته وأنجز ما لم يتوقعه أحد يوماً من ذاك الصبي المريض، تزوج مارتن بيستوريوس من حبيبته ورفيقة دربه، وهاجروا من جنوب إفريقيا حيث عاش تجربته مع المرض، إلى إنجلترا ليصبح مصمماً ومطور مواقع وكاتباً لكتب تحقق أعلى المبيعات عالمياً..