نُقل عن أحد الشخصيات الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو وتشكيل السلطة الفلسطينية قوله: ( حان وقت تفكيك البطل) وأردف بأنّ البطل المراد تفكيكه هو (الفدائي) بصورته المعهودة، وأنّ المراد تركيب صورة (بطل) آخر من وحي اتفاقية أوسلو، ( بطل) بجوهر ومظهر مختلفين تماماً، يتناسبان مع طبيعة والتزامات المرحلة الجديدة.
خلال العشرين سنة الماضية تم العمل على تفكيك و تهشيم صورة البطل القديم، وبالتوازي مع ذلك تم العمل على بناء شخصية (البطل الجديد) أو ما عُرِف فيما بعد بِ ( الفلسطيني الجديد)، هذا العمل أثمر جزئياً، وتبيّن أنّ المراد ليس تفكيك البطل القديم فقط، ولا أنّ "البطل" الجديد يُراد له أن يبني دولة، و إنّما المراد منه تفكيك البطولة والقضية التي صنعت البطل نفسه، بطل من ورق فارغ المضمون، بل في بعض حالاته يتناقض مع مضمون القضية التي اقتضت وجوده، بل تصل إلى تفكيك الشعب ووحدته الاجتماعية والسياسية، وهو ما وضع مُنَظِّري هذا المشروع أمام مأزق تاريخي خطير، و هذا ما أدركه غالبية الفلسطينيين فيما بعد.
لم تُفلح محاولات إعادة البوصلة إلى مسارها، وعاش الفلسطينيون مرحلة بالغة الصعوبة، تعرضت فيها صورة (البطل الفدائي) لأسوأ عملية تهشيم و تشويه في تاريخ القضية الفلسطينية، وافتخر مَن افتخر بقدرته على صناعة (نموذج البطل الجديد) في أهم معاقل الثورة الفلسطينية ... سبع سنوات عجاف عاشها البطل الفلسطيني، ولكنه كان يعمل بصمت و يتحمل كل أشكال التشويه والاستئصال، وكان العالم كله على موعد مع ( الفدائي) الفلسطيني الذي يخرج كطائر العنقاء من تحت الرماد، ومن قلب الأنفاق، ليعيد صياغة الثقافة الشعبية الفلسطينية والعالمية لصورة المقاتل الفلسطيني الذي لا نراه و لكن نرى بطولاته على الأرض، البطل الفلسطيني الذي ينتقي نخبة قوات عدوه ليقاتلهم ويهزمهم، بينما يفرون منه و يبكون ثم يطلقون النار من بعيد على الأطفال والنساء.
أعاد البطل الفلسطيني نفسه من خلال صناعته للصاروخ الذي حلّق فوق المدن الفلسطينية كلها ليرسل لها قُبُلات المشتاقين وليغرس في أرضها بذور العودة، وعبر طائراته التي ترصد و تهاجم لأول مرة في تاريخ العرب الحديث، فسماؤنا لم تعد حكراً على مغتصبيها، ولكنها اليوم تفخر بصواريخ وطائرات البطل الفلسطيني، بطل صنع بنادق قنصه التي ترقب مغتصبي أرضه بدقّة و تحيلهم إلى "أعجاز نخل" مليئة بالثقوب مُقطَّعة الأطراف، بطل صنع قذائفه ومدافع الهاون التي أحالت جنود العدو إلى "عصف مأكول"، بطل سبح عشرات الأميال ليعود إلى أرض أجداده و ليقاتل قتال الأبطال ولا يستشهد إلا بعد أن يلقّنهم درساً بليغاً و قاسياً في الرجولة و القتال.
أعاد البطل نفسه عبر تحقيق وعوده لإخوانه الأسرى في السجون عندما قال لهم: "رسالتكم وصلت.. لن تبقوا في السجون"، فهو يقاتل و يأسر جنود العدو حتى لو بذل روحه في سبيل ذلك، وأصبح الأسرى على أبواب حرية وعملية تبادل جديدة، وأصبح جنود العدو يهربون من ساحة المعركة خوفاً من أن يأسرهم البطل الفلسطيني.
عاد البطل الفلسطيني بمصداقيته وبعده عن الاستعراض، بخطاب إعلامي صادق وموضوعي ودقيق، فقد ولّى زمن الاستزلام والاستعراض، مقاتل يقول قتلنا العدد الفلاني من جنود العدو ويثبت ذلك بالتصوير، ويظهر جُبن وهزاَل جنود العدو أمام البطل الفلسطيني الذي يخرج لهم من باطن الأرض، يقتلهم و يأسرهم ثم يختفي.. بطل لا يبالغ ولا يكذب، بل كشف كذب عدوه، و فرض احترامه على كل العالم، وأصبحت روايته حقيقة علمية و خبراً مُعتمداً.
أعاد البطل الفلسطيني صورة القُدوة للأطفال وللجمهور الفلسطينيي والعربي، فلم يعد بطل الجماهير هو الذي يلبس بدلة جميلة و يتكلم بطريقة لبقة أمام الكاميرات، وأصبح القدوة هو الملثم صاحب الكوفيّة الحمراء الذي يلبس الملابس العسكرية ويحمل صاروخاً على كتفه ويلاحق جنود العدو خلال هربهم من قطاع غزة، يقتحم الحدود والأسيجة والجدران ويقاتلهم ويقتلهم ويضربهم، ولم يعد الكلام عن السلام واستنكار أعمال المقاومة ومهاجمتها يرضي أحداً من الفلسطينيين، وأصبحوا يُطربون آذانهم بكلمات أبي عبيدة: "سننتصر يا ابن اليهودية"... وأصبحت كلمات التحدّي وألحان الصمود وخطاب التضحية وبطولات المقاومة أغنية الجماهير. أعاد الفلسطينيون تركيب صورة البطل الذي طهّر قطاع غزة من الاستيطان، وهو الآن على وشك تطهير محيط القطاع منهم، بينما أدّى تفكيك هذا البطل وتهشيم صورته في الضفة الغربية إلى جلب الاستيطان إلى وسط بيوت الفلسطينيين، بل ضاعفت الاستيطان والمستوطنين في الضفة الغربية بطريقة مهولة.
أظهر "البطل" الفلسطيني صورة المقاتل العنيد المؤمن بحقوقه، مقاتل شرس يفتك بأعدائه بشراسة لم يعهدها جيش العدو منذ اغتصاب فلسطين، مقاتل تركه الجميع وحيداً بلا نصير، فعقد حبله مع الله و مع شعبه، ورمى به الشعب الفلسطيني عدوّه فأدماه وأثخن فيه، وكان رهان شعبه عليه في محلّه.
هشّمت ثقافة "البطل المقاوم" ثقافة الهزيمة، ووضعت مكانها ثقافة القادة الذين يتقدمون ويقدمون أبناءهم وعائلاتهم وكل ما يملكون فداءً لشعبهم و حريّته، قيادة و جنود يضعون أنفسهم – بطيب خاطر - درعاً عن شعبهم، تُهدم بيوتهم وتقتل عائلاتهم و تشرد دون شعبهم وقبله ، قيادة تعلن بلا تردد أنّها لا تقايض حياتها ورفاهيتها بحقوق شعبها.
مزّق "البطل" الفلسطيني رواية الهزيمة التي كانت تلاحقنا منذ طفولتنا، وألقى في القمامة رواية الأنظمة الرسمية العربية عن عجز العرب والمسلمين وقوة جيش الاحتلال الذي (لا يُقهَر)، وظهر أنّ الجيش الذي هزمهم جبان هزمه مقاتلون أقل منهم عدداً وعُدَّة، و أثبت "البطل" أنّ للهزائم أسباباً أخرى، ليس من بينها صفات استثنائية لهذا العدو، وأنّ المشكلة فيمن كانوا قُبالته، بل حطمت المقاومة هيبته ومرغت أنفه في التراب، وجعلت كل مدن فلسطين المحتلة مستباحة لصواريخها، ومعسكراته مرتعاً لمقاتليها، وهو ما لم يحصل منذ احتلال فلسطين، بل تحطّمت صورة جيش العدو أمام جمهوره، وأُشرِبوا في قلوبهم عِجلَ الهزيمة و الهوان، وبعد أن كان قادة جيشهم يسألون قادتهم عام1967م عن أي عاصمة عربية يريدون منهم احتلالها خلال ساعات، أصبحوا يقفون عاجزين منتحرين مهزومين أمام قرية صغيرة إسمها خُزاعَة، دمّروها كلها وبقيت تقاتل، ومن دخلها منهم خرج بعاهة جسدية أو بمرض نفسي، وأصبحت أسئلة الوجود والاستمرارية أمام المشروع الاستيطاني على أرض فلسطين حاضرة بقوة، ولا نبالغ إن قلنا إنّ معركة "العصف المأكول" توازي في تأثيرها النفسي والاستراتيجي على جيش وشعب العدو حرب عام 1967م على العرب.
البطل الفلسطيني أعاد ببطولاته رسم أولويات التفكير في مصانع القرار في العالم، فجلب أمريكا اللاتينية و الصين وسيجلب آخرين إلى حدود قطاع غزة، وأوقع الصهاينة العرب بمآزق ومصائب لم يحسبوا لها حساباً، فبطولات البطل الفلسطيني أحدثت تحولات جذرية في الثقافة الفلسطينية والعربية و الاسلامية والعالمية، ونحن نلمس بدايات هذه التحولات بوضوح، وكل محاولات احتوائها والقضاء عليها لن تنجح، ولم تعد الشعوب العربية تُعجب ب"بطل" دكتاتور أو طائفي أو عنصري مُتَوَهَّم، أو أفّاق مستعرِض سخيف، أو منافق مرتزق متلوِّن، فقد أثبت المقاتل الفلسطيني ببوصلته التي لم تتحطّم أين هو ميدان البطولة، وأدرك الكثيرون ممن ظنّوا أنّ قرار المقاومة في يدهم، و أنّ دعمهم لها في مرحلة سيجعلها رهن إشارتهم، وعندما رفضت تغيير بوصلتها هجروها، ثم أدركوا الآن أنّهم خسروا كثيراً بقرارهم هذا، و أنّ إحجامهم عن القيام بواجبهم لم يؤخرها، بل دفعها هذا الهُجران للاعتماد على ذاتها أكثر والانتقال نقلةً نوعيةً لم يتوقعها أحدٌ في الأداء والتجهيز، وبات واضحاً عودة الغَزَل و محاولات إعادة العلاقات معها.
ما حققه البطل الفلسطيني دفع و سيدفع الكثير ممن وقفوا ضده و حاولوا تهشيمه وتهميشه وتشويه صورته للاستماتة لحجز مكان في صورة النّصر التي في وسطها وفي القلب منها نجم الفلسطينيين والعرب والمسلمين و أحرار العالم... الفدائي الذي صنع الانتصار بدمه و ببطولاته.