أحيانا يفاجئنا فيلم بمدى صدقه في تصوير المرأة، ومدى فهمه لما يدور في خلدها، وهذا بالضبط ما يفعله الكوري الجنوبي هونغ سانغ سو، في فيلمه «المرأة التي ركضت». حين يجد القلب صحبة يطمئن لها ويأنس بها، ينطلق اللسان بالحديث عما يشغل البال، وهذا ما يجري في فيلم سانغ سو، الذي يعتمد على أحاديث بين صديقات باعدت بينهن المسافات والأيام.
غامهي (كيم مين هي، في حضور عذب للغاية) ثلاثينية جميلة، تجد نفسها بمفردها منذ عدة أعوام، فمنذ زواجها لم تبعد يوما واحدا عن زوجها، ولكنه سافر في عمل لعدة أيام. وللمرة الأولى منذ سنوات تجدد صلاتها بصديقات لم ترهن منذ أعوام. ثلاث زيارات لثلاث صديقات، وثلاثة أحاديث من القلب، أحاديث طيبة بسيطة، ولكنها تكشف الكثير عن كل من الصديقتين، تكشف أشجانهن أحيانا، وسعادتهن الصغيرة أحيانا.
«المرأة التي ركضت» فيلم بسيط عذب الإيقاع، يكمن عمقه في سلاسته وصدق أحاديثه، فلا نشاهد انفعلات ضخمة ولا ردود فعل مدوية، ولكننا نفهم الكثير وندرك الكثير.
الرجل هو الغائب الحاضر في جلسات الصديقات، وعادة ما يأتي الرجل ليقطع بحضوره تدفق الحديث، يأتي ليكون كيانا غير مرحب به، يحاول أن يفرض سطوته ورأيه على النساء بصورة أو أخرى، ولكنه سريعا ما يغادر لعدم رغبتهن في بقائه، ليعود الحديث إلى عذوبته ومجراه. في إحدى الزيارات تتحدث شريكة صديقة من الصديقات في السكن، حيث يقمن في منطقة قريبة من الريف، عن ديك في مزرعة قريبة يقف على أكتاف الدجاجات ليبدو ضخما مهيبا، ويؤدي ثقله إلى نتف ريش الدجاجات تماما في منطقة الرقبة. أيمكننا أن نستشف من ذلك أن الرجال في حيوات تلك النساء، أمر يحد من طاقاتهن ويكبلهن؟ لا يقول الفيلم الكثير، ولكنه يفتح لنا الباب لنستشف ذلك. الطعام، والطهو قاسم مشترك في أحاديث الصديقات، إنه إحساس البيت والدفء والمشاركة في الطعام، الذي تشعر النساء معه بالراحة والاطمئنان فينطلق اللسان بالحديث. يونغسون تعيش على مشارف العاصمة سول، في منطقة تحيطها الجبال والمزارع. يونغسون مطلقة، استخدمت التسوية المالية التي حصلت عليها بعد الطلاق لشراء شقتها، التي تؤجر غرفة فيها لشابة. الصديقة الثانية التي تزورها غامهي هي سويونغ، وهي مصممة رقصات ومدربة لتدريبات البيلاتس، غير متزوجة تعيش في شقة أنيقة استأجرتها وسط منطقة يسكنها المثقفون والفنانون، وهي معجبة بجار لها يرتاد معها المقهى نفسه. والصديقة الثالثة هي ووجن، التي تعمل في مركز ثقافي يضم قاعة عرض ومسرح، ومتزوجة من الحبيب السابق لغامهي.
لا تكشف غامهي الكثير عما يعتمل في داخلها، لكن بعض الكلمات البسيطة توحي لنا بالكثير، فغامهي لم تعمل قط بعد الزواج، فزوجها، الذي يعمل مترجما ومعلما، يفضل أن تبقى قربه دوما، لأن الحب هو ألا تغادره أو تتركه قط. وحين تسأل إحدى الصديقات غامهي، عما إذا كانت تشعر بالحب في زواجها، تجيبها أنها لا تعرف، فربما يكون ما تشعر به أحيانا هو الحب. هل تراود الشكوك غامهي عن زواجها؟ هل تشعر بالاختناق من بقائها الدائم مع زوجها؟ هل تود لو كان لها كيانها الخاص وعملها؟ أتراها كانت تود أن يكون لها منزلها الخاص ومالها الخاص؟ أتراها تغبط صديقاتها تجاربهن العملية التي لم تتح لها؟ لا يعطينا الفيلم إجابة شافية، ولكنه يترك لنا الباب مفتوحا للتكهنات، من نظرة عين مطرقة، أو سحابة حزن تمر سريعا، أو صمت مؤقت يقطع الحديث، ربما ترى غامهي في صديقاتها الثلاث صورا مختلفة لذاتها، لحياتها لو لم تكن لصيقة بزوجها. ربما ترى في صديقاتها وجوها أخرى لحياتها.
وفي عطلتها من بقائها الدائم مع زوجها، إذا ما أطلقنا عليها ذلك، تكتشف غامهي أيضا أن بعضا مما ضاع منها وما كانت تظنه سعادة وحبا، لم يكن في الواقع يستحق العناء، حين تلتقي مصادفة بحبيبها السابق، الذي أصبح زوج صديقتها، تكتشف أنه أصبح ثرثارا ممتلئا بذاته مزهوا بنجاحه كروائي.
حوار الفيلم لافت للغاية لشدة عذوبته وصدقه. لا يسعنا إلا أن نقول إن هونغ سانغ سو، الذي كتب أيضا حوار الفيلم، يفهم خير فهم ما يدور بخلد المرأة، ويصور خير تصوير ما يدور بين الصديقات في جلساتهن الحميمية. أن نجد مخرجا يعرف المرأة حقا لأمر يثلج القلب.