دخلت البيتزا في عادات الطعام المحلّيّة، الأبناء والأحفاد هم الذين فرضوا على الآباء أن يقبلوا بهذا الطعام الدّخيل حتى في الأرياف، وربّما كان ذلك فرارا من رتابة المطبخ الكلاسيكي الذي لا يفتأ يعيد في وجبة يومه ما طبخ أوّل أمسه، وحتى أمسه. لم يكن من العسير القبول بهذا الطبق الإيطالي الشهير الذي يتمطّط جبنه ويجفّ مرقه حتى لمن لمْ يتربّ على المعجّنات الإيطالية المركبة، فربّما وجد في البيتزا بعض ما في الأطباق المحلّيّة السابقة، وإن كان في الأمر كثير من الفروق التي تقبل بعد أوّل تذوّق لقطعة بيتزا في محلّ أكلات سريعة. في هذا المبحث سنعتبر البيتزا شيئا يعالج في سياق ثقافي مخصوص، وعنصرا من عناصر الطعام الوافد الذي يحلّل في إطار سيميائيّة الطعام التي تعتبر المأكولات عناصر تنتمي إلى نظام تقابلي، يشبه التقابل بين العناصر اللغويّة، أو لنقل على طريقة تحليل رولان بارت، إنّ لها بعدين: بعدا جماعيا يشبه اللسان وبعدا فرديّا يشبه الكلام.
سيميائيّة الأشياء ترتكز على السياقات وترى أنّ المحيط الذي يوجد فيه الشيء يلعب دورا كبيرا في تحديد معناه على حدّ رأي Octave Debray &Laurner Turgeon في أثريهما «أشياء وذاكرة». وبالرجوع إلى أعمال السيميائيّ الفرنسيّ رولان بارت، أكّد الباحثان أنّ السياق الذي يُتناول فيه الشيء يمثّل نظاما من الدلالات الحافّة، أي من الدّلالات الثانية التي تثيرها استعمالات مادّة علاميّة مخصوصة؛ هي دلالات ثانية لأنّها تضاف إلى دلالة العلامة الأصلية، أو الحرفيّة وهي دلالة ثابتة وأساسيّة. ويرى السيميائيّون أنّ كلّ استخدام علامي للشيء خارج سياقه يمكن أن يكون مثارَ خلط وتلويث لنظام الدلالة، ويستشهد بارت على هذا التلويث والبلبلة بأن تهدي السفارة لضيوفها قطعة بيتزا في حفل استقبال؛ أو أن يلبس المصطاف في البحر بدلة أنيقة يقف بها وسط المصطافين، أو على شفا الموج. يريد بارت أنّ السياق يتطلب تنظيما للباس بما يتماشى ونظامه الذي تفرضه قواعد اللباس في سياق معيّن؛ سياق يبين بيسر أنّ لبس قلنسوة مع كسوة بثلاثة عناصر يشبه ارتكاب لحن في الكلام: فمثلما يكسّر المتكلم قاعدة نحويّة يكسّر اللابس قاعدة لباس.
ويعتبر دوبراي وتبرجان أنّ الطريقة الثانية في دراسة الأشياء سيميائيا (فضلا عن السياق) هي طريقة المحايثة التي تركز على قيمة الشيء في نفسه، لذلك ترى أنّ إنتاج المعنى نابع من الشيء نفسه وأن السياق ملازم للشيء.
بحثنا أنا وزوجتي وولداي عن محل لبيع البيتزا كنت أريد وأنا أبحث ألاّ يجهدني البحث، لاسيّما أنّ المبحوث عنه لا يغريني أنا الرجل الخمسيني.. ماذا ستقول أمّي الثمانينية عن ولدها وهو يبحث في المدينة عن محلّ بيتزا ويترك خبزها العربي، خبز التنور ولا «يحنّ إليه».
أشار ابني إلى محلّ جديد مكتظّ بالآكلين قرأت على المحل يافطة مكتوب عليها: «بيتزاريا الحجّاج بن يوسف». لفت انتباهي هذا الجمع العجيب بين الحجاج الثقفي والبيتزا استطرفت الأمر ودخلنا. في ركن الذاكرة أشياء كثيرة عن الحجّاج لكنّ أهمّها ذلك النصّ من «البيان والتبيين» يذكر فيه كيف أنّ الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك استقدم وفودا من العراق، وأمرهم بشتم الحجاج فلم يحسنوا فغضب عبد الملك وقرّعهم وقال، إنّ الحجاج كتب إليه رسالة هدده فيها وطلب منه أن يسير معه سيرة أبيه وأخيه.. فتحت النت وبحثت عن النص قال الحجاج الوالي في رسالته إلى خليفته: «إنّما أنت نقطة من مداد فإن رأيت فيَّ ما رأى أبوك وأخوك كنتُ لك كما كنت لهما وإلاّ فأنا الحجَّاجُ، وأنتَ النقطةُ فإن شئت محوتك وإن شئت أثبتّك» (البيان والتبيين 1/397).
لا شكّ في أنّ لكلّ شخص حجّاجه فحجّاج عبد الملك، شخص لعين متمرّد جبّار لا قدرة له عليه، وحجّاج الجاحظ هو كاتب رسالة «المداد والنقطة» ولكنّ حجّاج صاحب البيتزاريّا شخص ثالث.
لا شكّ في أنّ لكلّ شخص حجّاجه فحجّاج عبد الملك، شخص لعين متمرّد جبّار لا قدرة له عليه، وحجّاج الجاحظ هو كاتب رسالة «المداد والنقطة» ولكنّ حجّاج صاحب البيتزاريّا شخص ثالث.. وضعت أمامنا بيتزا عظيمة مجزّأة بالسّكين قطعا في شكل مثلثات، وضعت الفرشاة جانبا وبَسْمَلْتُ نظر ابني إليّ وأنا أعيد البسملة كي يسمعا.. ربّما كان يراني مرتكبا لحنا: لحن ترك الفرشاة، وربما رأني غيره أرتكب لحنا آخر: البسملة على طعام أجنبيّ..
تقول ذاكرتي إنّ الحجّاج كان يعلّم الصبيان قبل عهد الإمارة القرآن، وأقرأ فيها ما حفظته من أخبار، ربما كانت مغرضة أنّه لم يفتح مصحفا بعد ذلك. قبل أن أضع المثلث الأوّل في فمي بيدي لا بالشوكة التفتّ إلى ولديّ كانا يتذوّقان القطع الصغيرة المقسومة بالسكين والفرشاة تذوّقا فيه متعـــــة الآكل.. أسرعت أضع القطعة في فمي ولكنّ ذاكرة المذاقات قارنتها بأكلات أجمل منها فزهّدتني فيها.. مضغت على مضض مضغ من يؤخّر شيئا لن تقبله المعدة.
أنا أثمّن المذاق الراهن بعادتي الجماعيّة التي تقارن بين المذاقات المخزّنة في الذاكرة وهذا المذاق.. ويثمّن أبنائي مذاقهم بالطريقة نفسها لنصل إلى مواقف مختلفة ممّا نذوق. كانت زوجتي تأكل وعينها على الولدين كأنّما تستمدّ مذاقها من رؤيتها لابنيها وهما يتنعّمان بهذا الطبق.. المذاق تفاعل ليس بيولوجيّا وحسب، بل هو تفاعل بين البيولوجي والاجتماعي والنّفسي.. هو الذي يجعل قطعة البيتزا دالة طرازيّا على مذاق أو دالة هامشيّا عليه. في كتابه ميثولوجيّات المخصص للنيء والمطبوخ ذكر ليفي شتراوس أنّ الطبخ هو نشاط فنّي يضمن تناقلا بين الطبيعة والثقافة. سألني الصبيّ الأكبر ما رأيك؟ قلت «المطبّقة»، وهي اسم لخبز محلّي يحشى بالمرق، أفضل.. قال: ابني الأصغر: «المطبّقة؟!» قالت أمه: لا تصلح لمعدتيكما ففيها الشحم.. الذي يزعجكما.. علمت أنّي دخلت في جدل غير مريح وأنّه عليّ أن أدافع مرّة أخرى عمّا يعرف بالأصالة، وهذا نقاش بتّ أراه مقرّرا سلفا: أناقش وأدافع عن القديم بدافع الحنين، ويناقش ولدايّ ويدافعان عن موقع الحداثة بدافع التلاؤم .. قلت لتلافي هذه الدائريّة : البيتزا خفيفة بالمقارنة مع خبز الشحم.. وعلى كلّ حال أنا أجرّب معكم أكلكم وقد جرّبت معكم لباسكم.. أشرت إلى سروال الجينز والحذاء الرياضيّ نظر ابني إلى القبّعة على رأسي وضحك: كانت مثالا لخطأ بارت في اللباس.
لست أدري لمَ كان عمر الزبائن في مطعم الحجّاج بن يوسف لا يتجاوز سنّي، أكل الشباب كلباس الشباب عليك أن تحبّ من يلبسه حتّى تحبّه هكذا أتصالح مع الأكل الذي لا يناسب سنّي، وقد لا يناسب تاريخي.. وصلتنا هذه المأكولات من إيطاليا وقبلناها بشكل سريع كما قبلنا المشروبات الإيطاليّة من خلال قبولنا القهوة بأنواعها. ربّما تحمل البيتزا رخصة عبور يظلّ الشباب في هذا البلد يحلمون بها، ولكنّهم يعبرون بزوارق الموت.. لا أعرف كيف يأكل المهاجر الناجي من قوارب الموت البيتزا الإيطاليّة في إيطاليا؟ ربّما أكلها وفي ذهنه البيتزا التي أكلها في بلاده.. أعني الشكل المحلّي للبيتزا الأصليّة: بيتزا الحجّاج بن يوسف مثلا! هناك تصبح المحليّة أصلا وتصبح الإيطاليّة فرعا.. وبعبارة الحجّاج: تصبح البيتزا التونسيّة بحرا أو مدادا وبيتزا إيطاليا نقطة…
عدت أنظر إلى اللافتة لأتأكّد من صحة ما قرأت: بيتزا الحجّاج بن يوسف .. أخيرا صار لي حجّاجي بن يوسف، وهو غير الحجّاج الذي في الأذهان التي ذكرناها سابقا.. على الرمز أن يدور ويعيش حتى لا يموت شخص كالحجّاج من جوع، ليس هو الجوع إلى الطعام بل هو جوع إلى الرّمز.. الجوع إلى الرمز سيجعل الجوعى يعتقدون أنّ هذه القصّة حقيقيّة.. إن شعر المرء بهذا فعليه أن يبحث عن دواء يفتح الشهيّة: شهيّة العمق.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية