قبل الحرب في سوريا، كانت مدينة إدلب -بطُرُقها التي تصطف على جانبيها الأشجار والمباني الحجرية البيضاء- تشتهر بهوائها الريفي الهادئ. لكنَّها أصبحت اليوم تكتظ بالعائلات التي فرت من الحرب في مناطق أخرى من سوريا، ممَّا أسفر عن تضخيم عدد سكانها وزيادته بحوالي مليون نسمة.
ويتخذ بعضهم مأوى في مبانٍ مقصوفة، أمَّا أولئك الذين لا يستطيعون إيجاد مأوى، فيخيمون في ملعب كرة القدم في المدينة، فيما يصطف سكانٌ آخرون في الخارج للحصول على المساعدات الغذائية.
وقد اعتاد السكان القصف لدرجة أنَّه لم يعد أحدٌ يرمش له جفن عند سماع صوت انفجار. لكنَّ المدينة، التي تعد آخر معاقل قوات المعارضة في سوريا، لم تشهد الأسوأ بعد، كما تقول صحيفة New York Times الأمريكية.
ففي الشمال، يعيش ما يقرب من مليون شخص على جوانب الطرقات وفي بساتين الزيتون في ظروفٍ تعد بمثابة واحدةٍ من أسوأ الكوارث الإنسانية في الحرب السورية الوحشية المستمرة منذ تسع سنوات.
فيما تقترب قوات النظام السوري المدعومة بالطائرات الحربية الروسية من مناطق الجنوب والشرق، إذ أصبحت على بعد حوالي 8 كيلومترات فقط. وحين تصل هذه القوات إلى مدينة إدلب، من المحتمل أن يفر سكانها البالغ عددهم مليون نسمة، مما سيضاعف عدد النازحين في شمال البلاد.
وكان الطبيب حكمت الخطيب، وهو جراح عظام، يحث والديه على الانتقال إلى بلدةٍ في الشمال، ولكن حين تعرَّضت للقصف، قررت والدته البقاء. وقال الخطيب متحدثاً عن والدته: “لقد صدمني كلامها. الخيار الوحيد هو انتظار الموت”.
تقول كارلوتا غال الكاتبة بصحيفة نيويورك تايمز: أجريتُ زيارةً نادرة إلى إدلب مع مصور ومترجم فوري يوم الأربعاء 4 مارس/آذار، عبر الحدود من تركيا. وتجولنا برفقة بعض عمال الإغاثة من جمعيةٍ خيرية سورية وأعضاء في جماعة “هيئة التحرير الشام” الجهادية المُعارِضة التي تسيطر على المحافظة. ووجدنا 100 عائلة تُخيِّم في الملعب، الذي تحوَّل إلى ملجأ للطوارئ.
ومن بين هذه العائلات، كانت أمينة سحلول جالسة على الأرض حول موقدٍ في غرفة كبيرة تحت الأرض للنساء والأطفال. ووصلت أمينة إلى هناك بعد فرارها من قريتها في جوف الليل، متشبثة بأحفادها الخمسة خلف ابنها على دراجة نارية. وقالت: “فررنا بسبب الغارات الجوية. لقد بدأوا يلقون القنابل العنقودية. بدت السماء وكأنها تُمطِر ناراً”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ سكان محافظة إدلب لم يهنأوا بأي لحظة راحة منذ أن بدأت قوات بشار الأسد، بدعم من القوات الجوية الروسية، تشق طريقها بالعنف نحو استعادة المدينة، بينما هدمت البلدات والقرى في جنوب المدينة وشرقها بغاراتٍ جوية عقابية.
وبدا أنَّ وقف إطلاق النار الذي أعلنته تركيا التي تدعم قوات المعارضة السورية، وروسيا التي تدعم النظام السوري يوم الخميس الماضي، 5 مارس/آذار، ساري المفعول، لكنَّ القليلين يعتقدون أنه سيستمر. إذ أصر الأسد على أنَّه سيواصل هجومه لاستعادة إدلب، بينما تعهَّدت الجماعات المعارضة بالمقاومة.
وفي ملعب كرة القدم، حين وردت أنباء عبر الراديو عن أنَّ الطائرات الروسية كانت قريبةً من المنطقة، ازداد التوتر بينما كان الأهالي يتفحصون السماء بقلق.
وفي وقتٍ سابق من اليوم نفسه، حين سقطت قذيفة مدفعية على حيٍّ مجاور، لم ينظر أي شخصٍ إلى مصدر صوت الانفجار سوى بضعة أشخاص. ويبدو أنَّهم اعتادوا الوضع نظراً إلى أن النظام يُطلق الصواريخ طوال الوقت.
ولكن حين تبدأ الطائرات الروسية في شن هجومٍ مشترك مع قوات النظام السوري، تستخدم القوة الساحقة، وتصب وابلاً من النيران التي تجبر الناس على الفرار للنجاة من الموت، ولا يكون لديهم سوى بضع دقائق للهروب بحياتهم.
وقال حسن اليوسفي وهو يمشي مسرعاً بغضبٍ حول ملاذ الرجال في الملعب: “كلما سمعت صوت طائرات، بدأت بالركض كالمجانين، وفقدت عقلي. عشت بجانب الطريق السريع طوال 45 عاماً. حفظت القرآن وكنت أعيش حياتي العادية. لقد قُتِل أخي. والروس قصفونا”.
وخارج الملعب، تدور عجلة الحياة في ظروفٍ حربية. إذ تكتظ الشوارع بالسيارات والدراجات النارية، وتمشي النساء معاً في شارع التسوق الرئيسي، لكنَّ المدينة لا تحظى بالكهرباء سوى ساعتين يومياً، فيما يبيع بعض الأولاد البنزين في عبوات بلاستيكية على زوايا الطرقات.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ محافظة إدلب غير خاضعة لسيطرة النظام طوال فترة الحرب، وتخضع في الوقت الراهن لسيطرة هيئة تحرير الشام. ولكن كان هناك عددٌ قليل من المقاتلين المسلحين الذين تمكنّا من رؤيتهم في مدينة إدلب، يوم الأربعاء.
وكان ضباط الشرطة الموالون للمعارضة يحرسون مكتب المحافظ ومركز الشرطة، اللذين ما زالا يحملان آثار القتال منذ الأيام الأولى للثورة. فيما تحمل لوحات الإعلانات في مختلف أنحاء المدينة ملصقات لامعة لمقاتلي المعارضة الذين يرتدون زياً عسكرياً موحداً، وتحث الناس على الانضمام إلى القتال.
إذ تقول إحدى اللافتات: “حان دورك لتلبية النداء”. فيما تظهر على لافتةٍ أخرى بجوار إحدى نقاط التفتيش العسكرية عبارة: “لا شرف بدون جهاد”.
وصحيحٌ أنَّ الأمم المتحدة صنَّفت جماعة هيئة تحرير الشام ضمن التنظيمات الإرهابية، لكنَّ الجماعة سمحت مؤخراً لبعض الصحفيين الغربيين بدخول إدلب بالتعاون مع تركيا، التي تريد ممارسة ضغوط دولية ضد روسيا والنظام.
وعلى الجبهات الأمامية المؤدية إلى الجنوب والشرق، تتكبَّد قوات المعارضة خسائر فادحة، على حد قولهم. إذ قال أبو أحمد محمد المتحدث باسم هيئة تحرير الشام: “خلال الأسابيع الستة الماضية، تعرَّضنا لانهيار”. لكنَّه أضاف أنَّ النظام السوري خسر جنوداً أكثر بكثير من الجنود الذين خسرتهم المعارضة، وأنَّه اضطر إلى جلب مقاتلين مدعومين من إيران لاستعادة مدينة سراقب الاستراتيجية، التي تناوب الطرفان السيطرة عليها عدة مرات في الأسبوعين الأخيرين.
وقبل ساعات من موافقة روسيا وتركيا على وقف إطلاق النار، حذَّر أبو أحمد محمد من أنَّه لن يسفر عن أي شيء. وقال: “سيلجأ الجانبان إلى التصعيد. ونحن في فصائل هيئة تحرير الشام لن نقبل أبداً بخفض التصعيد لأنَّ الروس متحكمون في الموقف وقد لا يوافقون على تسويةٍ سلمية”.
لكنَّ معظم سكان المحافظة البالغ عددهم ثلاثة ملايين نسمة مدنيون، ويرغبون بشدة في انتهاء الحرب. ويبدو أنَّهم يتشبثون بالأمل في أن يسفر نشر تركيا أعداداً متزايدة من القوات في المحافظة عن وقف الهجوم.
وقال عبدالرزاق، رئيس قسم الإغاثة الطارئة في منظمة “بنفسج” الخيرية السورية للإغاثة والتنمية: “أي شيء يجعلنا نشعر بالأمان أو يُبعِد النظام عنَّا، فهو جيدٌ للغاية”. فيما كانت فِرقَه الإغاثية تواصل مساعدة الأهالي على الفرار من القرى الواقعة على الخطوط الأمامية، وتستعد تحسُّباً لحدوث إجلاء جماعي لسكان المدينة. وأضاف متحدثاً عن ذلك: “لكنَّ مدينة إدلب ضخمة، وإلى أين نأخذهم؟”
على بعد ساعة بالسيارة إلى شمال المدينة، تُزيِّن الخيام الزرقاء والبيضاء سفوح التلال الصخرية وبساتين الزيتون في المنطقة الحدودية. وانتشرت مخيمات آلاف الأسر النازحة منذ أيام الحرب الأولى وطوال السنوات التي تلتها، قبل أن تتحوّل إلى مستوطنات من المباني الإسمنتية المبنية بالمساعدات الأجنبية.
وانضم إليهم مئات الآلاف من الناس خلال الأسابيع الستة الأخيرة، حيث نصّبوا الخيام على جانب الطريق وبين بروز الحجر الكلسي في القطاع المزدحم بالسكان على طول الحدود التركية. وأوت العائلات إلى المساجد والمدارس والمتاجر الفارغة والمصانع.
وحتى أولئك فليسوا في أمان. إذ فرّت امرأةٌ قالت اسمها أم عبدول من قريتها قبل ثلاثة أشهر، ولجأت مع عائلتها داخل مصنع طوبٍ قديم خارج بلدة معرة مصرين. وفي يوم الإثنين الثاني من مارس/آذار، كانت في الخارج لجمع الأعشاب مع اثنين من أطفالها حين سمعت صوتاً يُشبه العصافير، فنظرت إلى الأعلى لترى صاروخين يسقطان من السماء باتجاهها.
وقالت: “وضعت الأطفال على الأرض وغطيتهم بجسدي. إذ قالوا إنّ الاستلقاء على الأرض يقيك من الشظايا”. وفقدت وعيها، في حين أُصيبت ابنتها التي تبلغ من العمر 18 شهراً، لكنّهم نجوا جميعاً.
وداخل ملجأ طوارئ بالقرب من الحدود التركية، تقدّمت عالية أبرص (37 عاماً) للحديث. وسألت: “هل تعرفون معنى النزوح؟ يصير المرء أشبه بالكلب الضال”.
وقالت إنّ المُنقذين استغرقوا ساعتين ونصف الساعة من أجل الحفر وانتشالها هي وأطفالها الثلاثة من وسط حطام منزلهم في بلدة أريحا قبل شهرٍ واحد. وكانوا حينها في منتصف الليل، لكنّهم تُرِكوا في الشارع بجوار أطلال منزلهم لأنّه كان هناك المزيد من البشر الذين يجب إنقاذهم. إذ قُصِف الحي المُحيط بالمستشفى الرئيسي بالكامل.
وأردفت: “قضينا يومين في الشارع” حتى عثر عليهم فريق الإنقاذ ونقلهم إلى الملجأ الذي يستضيف 45 عائلةً أخرى وسط مركزٍ للتسوق في بلدة سرمدا.
وتابعت: “أتمنى لو أنّني مت تحت الأنقاض مع أطفالي. لقد فقدت كل شيءٍ قضيت أنا وزوجي أعمارنا في بنائه. نحن تحت الصفر”.
وفي مخيّم النصر، نصّب الواصلون حديثاً خيامهم على بعد أمتار من الجدار الإسمنتي الذي تعلوه الأسلاك الشائكة للحدود التركية. وبدأ البعض بالفعل في بناء المنازل الخفيفة على تلةٍ في مواجهة تركيا.
وكانت هناك أربع عائلات مُكوّمة داخل خيمةٍ واحدة منصوبة فوق مجاري المُخيّم. ولم يكُن لديهم خيارٌ آخر على حد قولها. ومن وراء الخيمة، كانت المجاري تتدفّق على أسفل التل إلى بركةٍ نتنة.
وقالت هنا الميجان، المُزارعة والأم لسبعة أطفال: “لم يقبل أحدٌ آخر بهذا المكان. ونحن لا نملُك المال للبناء”. ونزحت الأسرة مرتين، وتراكمت عليها الديون نتيجة افتقارها إلى العمل، إذ أوضحت: “نحن تحت الصفر”.
وهذه المرة، اختاروا العيش على بُعد 92 متراً من الجدار الحدودي. ألم يخشوا أن يتعرّض هذا المكان للقصف أيضاً؟ هزت هنا رأسها نفياً، وأشارت إلى التل المُقابل قائلةً: “هذه تركيا”.