عدت للبلاد من لندن فجر يوم الثلاثاء الثالث من آذار، أي قبل حوالي أسبوعين من اليوم، عند نقطة الحدود سألني ضابط الجوازات؛ هل كنت في إيطاليا، أجبت باقتضاب: لا أنا قادم من لندن، فتابع هل كنت في الصين، بذات الاقتضاب أجبت: لا، فاستطرد: انتبه إن الأمر خطير. وأعاد لي جواز السفر وبطاقة المرور.
للحظة كنت سأطلب المساعدة بأنني أشعر بارتفاع درجة الحرارة ، وربما ما منعني هو رغبة جامحة للعودة للبيت، والثاني ألَّا أبدو كمن يطلب من مستعمره مساعدة طبية أو وقائية ولم أكن متأكداً كيف ستكون ردة فعله، فهذه مسؤولية الصحة الفلسطينية عني كمواطن فلسطيني، وبعد قليل سأكون تحت مسؤوليتها، سيما أنني لست متأكداً من طبيعة جدية الإجراءات، فلم يتم فحص درجة حرارة المسافرين كما قرأت وشاهدت فيديوهات في مطارات أخرى بما فيها دول عربية كدبي على سبيل المثال، واكتفوا بمن يطلب المساعدة، كما أعلن طاقم طائرة البريتيش إيرويز، ذلك كله كان أيضاً بفعل تردد ناجم عن أن الحرارة والإرهاق والرشح الذي يتصاعد معي ربنا ناجم عن نزلة برد أصبت بها قبل يومين من سفري ويبدو أنها كانت صعبة وتفاقمت في الطائرة رغم نومي طول ساعات الرحلة.
وصلت البيت وقررت عزل نفسي طوعاً في غرفة منفردة بانتظار تشخيص أكثر دقة، في العاشرة صباحاً اتصلت بطبيبي الصديق والرفيق العزيز د. زيد أبو شاويش، والذي هو بمثابة طبيب خاص أستشيره بثقة وبكل شئ وبانفتاح لا أجرؤ عليه مع أي طبيب أو إنسان آخر، فاستجوبني بكل ما يخطر على البال من أسئلة، ووجهني بعدد من الإرشادات وبعض الأدوية الخافضة للحرارة والمحسنة للمناعة، دقائق بعدها اتصل شقيقي د. بهاء، وفوراً أحضر ما هو مطلوب من الأدوية المدعمة للمناعة وخاصة فيتامين سي والزنك وفيتامين D بجرعات الحد الأقصى المسموح، كما كانت زوجتي قد أحضرت بعض الأدوية بما في ذلك مضادات حيوية بناء على طلب طبيبة أخصائية قريبة لنا عندما تبين أن احتقان الحلق ربما ناجم عن التهاب. وأبقيت نفسي في العزل الطوعي. في اليوم التالي تلقيت اتصالاً من مدير الطب الوقائي في رام الله الذي كرر سؤال ضابط الحدود هل أنت عائد من إيطاليا؟ أنا: كنت في لندن وعدت قبل يومين، ولكنني أعاني من أعراض درجة الحرارة وتصل إلى 38.5 وتنخفض فقط بالباراسيتامول ثم تعود وترتفع، وأوضحت له الأعراض الأخرى الصداع والاحتقان والضعف العام. وأبلغته أنني عازل نفسي بشكل صارم وسألت: هل يمكن إجراء الفحص وأين فأجابني: نحن نتصل الآن فقط بخصوص العزل وليس الفحص وإذا تقرر إجراء الفحص سنحضر لك إلى المنزل، ونبه بأن لا أذهب لأي مكان، وأكد بأنه ودائرة الطب الوقائي ستتواصل معي.
مر يومان وأنا في حالة عزل طوعي وإجراءات ذاتية مشددة وعلاجات مدعمة للمناعة، وأخرى خافضة للحرارة وسوائل ساخنة عشبية "البابونج، اليانسون، القرفة، الزنجبيل، الليمون، ماء الثوم وخل الثوم، والحمضيات بمختلف أنواعها"، حتى يوم الجمعة لم يتصل الطبيب أو أحد من دائرة الطب الوقائي، كما ذكر لي، وأنا في وضع يزداد صعوبة وعلى ذات الحال دون تحسن، وبدأ يتسرب لي القلق بأن الأمر قد يبدو أنه أكثر من نزلة برد شديدة أنا معتاد عليها، سيما أن الصداع لم يعد يطاق مترافقاً مع ارتفاع ملحوظ في درجة الحرارة، وكنت اطلعت على مخاطر هذا الفيروس للذين يعانون من أمراض مزمنة كالسكري والقلب، سيما أنني وفي التاسع والعشرين من شباط وأثناء ممارسة الرياضة الصباحية حيث كنت مقيما في لندن تعرضت لوعكة صحية أجبرتني على تمضية يوم كامل لإجراء فحوصات شاملة وتخطيط عدة مرات للقلب والشرايين وفحص كيمياء وأنزيمات الدم عندما يكون اشتباه بجلطة وأشعة الرئة ذلك كله في مستشفى St. Mary’s في لندن التابع لـ Imperial college Healthcare.
بادرت بعد عدة أيام بالاتصال بمدير الطب الوقائي وشرحت له وضعي، وكررت سؤالي بأنني أشعر بذات الأعراض فهل من إمكانية لإجراء الفحص. تحدث بلطف شديد وأظهر بكلامه مسؤولية عالية ووعدني بأن يسأل المسؤولين ويعود لي؛ نصائح شقيقي وصديقي الطبيب كانت بتكثيف الإجراءات والالتزام بأدوية الوقاية الذاتية ومراقبة الحرارة. لم يعاود الطبيب المختص في دائرة الصحة بالاتصال كما وعدني، وبدأت أسيطر على حالتي الصحية بنفسي متبعاً الإجراءات والتوجيهات. مساء السبت 7-3 بدأت الحرارة تستقر بمعدلها الطبيعي "37 +0.5 أو -0.5 درجة". الأمر الذي ترافق مع اختفاء الصداع تدريجياً في الأيام التالية، وبدأ جسمي يستعيد حيويته.
مع استمرار كل إجراءات العزل الطوعي، وإجراءات تغذية صارمة وأدوية مدعمة للمناعة. خرجت مرتين منفرداً في اليوم العاشر والحادي عشر للمشي تحت شمس قوية مع أخذ الاحتياطات الواجبة للوقاية الذاتية سيما عدم الاحتكاك أو الاختلاط أو الاقتراب من أحد. اليوم هو الرابع عشر لحجزي الذاتي والالتزام بالرعاية الطبية والغذائية الصارمة.
تجاوزت مرحلة الأعراض التي تؤشر لحالة الخطر، وأظنني تعافيت تماماً أو إلى حد كبير، ولكن دون الإجابة على سؤال هل ما مريت به كان إصابة بفيروس الكورونا أم أنها إنفلونزا موسمية ونزلة برد شديدة ولكنها عابرة، وهل انتهى الخطر أم لا ؟ حاولت بالأمس الاتصال بمدير الطب الوقائي ورد علي رقم الهاتف المسجل لدي زملاؤه وشرحت لهم ما هو معلوم لمديرهم، وأكدوا لي أنهم سيعلموه بما أخبرتهم عن تطور الحالة، لم يعد لي بعد، اتصلت مرة ثانية، وسأتصل مرة أخرى موضحاً ومستفسراً وليس معاتباً، لأنني أدرك صعوبة إمكانيات النظام الصحي الفلسطيني وضغط اللحظة بفعل حجم الأعباء المتزايدة عليه يومياً. فجوهر الوقاية هي مسؤولية فردية مع أن للمواطنين المشتبه بإصابتهم حق أن تجرى لهم الفحوصات المخبرية، وأيضاً أن يجري التأكد من مدى سلامة إجراءات الوقاية الذاتية التي يتبعونها. الأمر الذي لا يقل أهمية عن ممارسة العزل والوقاية الذاتية والاهتمام الدقيق بكل وسائل النظافة هو دور الأسرة؛ فزوجتي والتي أخذت معي كل احتياطات العزل الذاتي الخاص بها، ومع أنها كانت تحاول إبعاد القلق من الفيروس ورفع المعنويات، إلا أنها كانت عوناً بأخذ إجراءات عزل ذاتية موازية وبذات الصرامة والحرص على تعقيم المنزل والغرفتين المعزولتين اللتين نقيم بهما على انفراد وحماميهما المنفصلين، فدرهم الوقاية هو السلاح الوحيد لحماية أنفسنا وهو خير من قنطار علاج، والذي للأسف هو غير متوفر عالمياً حتى الآن.
أيام عصيبة مرت وربما أصعب وأقسى منها لم تأت بعد؛ العزل البيتي يبدو قاسياً ولكنني أظنه فرصة إنسانية لتتأمل زوايا بيتك وتشعر بدفء كل مكوناته وذكرياته الجميلة التي جمعتك فيه مع زوجتك وأبنائك وأصدقائك وضيوف بيتك، افتقدت خلال هذه الأيام جدية ابني مجد وصرامته وحنان ابنتي رغد وبسمتها الصباحية، وظلت ترافقني جدية إجراءات نائلة وعفويتها وأخذ الأمور ببساطة ودون قلق زائد أو تهويل غير مطلوب. افتقدت مكتبي كما افتقدت صحبة التريكس والطرنيب التي كنا نقتل بهما سوياً الملل والوقت في زمن إحالة شعب وكفاءاته لقائمة وواقع انتظار الآتي المجهول، ولكنه معلوم تماماً، بحالة من الشلل في كل شئ وخاصة ما هو مطلوب من إجراءات طوارئ سياسية فالخطر الوطني وجودي، وإن غطت عليه حالة وباء الكورونا. أعادتني أيام وساعات العزلة للكتابة والقراءة والاستمتاع بالموسيقى ومشاهدة أفلام الأوبئة والجائحة البشرية والسلوك الإنساني في تلك السنوات، وكيف يجمع السلوك الإنساني بين أنانيات غريزة الخلاص الفردي وأهمية وعي الانتماء للجماعة والحرص على الانتصار الجمعي؛ جيلنا لم يعش سنة الثلجة بعد النكبة ولا قبلها الإنفلونزا الإسبانية ولا سنوات الكوليرا، وربما لم يشعر الكثيرون منا بإنفلونزا الخنازير أو الطيور أو الإيبولا. فوباء الكورونا سجل اهتماماً كونياً غير مسبوق ترافق مع صراعات اقتصادية وتكنولوجية في عالم تتناطحه التجاذبات التي تبدو أحياناً وكأنها عتبات حرب كونية أو نهاية عصر الحضارة كما عرفناها، وأظهر الفيروس بقصد أو بواقع الحال عجز قوى عظمى! ولكن بالحب والتضامن والمسوؤلية الفردية والعامة والقوة اللامتناهية للتضامن الجماعي الإنساني والخلّاق ستحقق البشرية ما عجزت عنه تلك القوى العظمى، الأمر الذي يستدعي إعادة تعريف مفهوم القوى العظمى الإنسانية التي تبدأ من وعي الإنسان الفرد لقيمته الهائلة كواحد من الجماعة البشرية، والتي ستنتصر على الكورونا وعلى كل قوى الظلم والعنصرية والفاشية التي تمارس ضد الشعوب المضطهدة والأغلبيات الفقيرة والمستغلة، وفي العلاقات الدولية وداخل كل مجتمع وحتى كل إنسان! وستروى حكايات وبطولات وستخرج أفلام سينمائية ومسرحيات وبتقديري سيسجل التاريخ سيرة بطلة من فلسطين هي ماريانا العرجا وعشرات بل مئات وآلاف الأمهات اللواتي يسهرن على حياة أطفالهن هنا في فلسطين وفي كل أرجاء المعمورة التي ستنتصر حتماً!
تجربة هذه الوعكة لم تمنعني بل ربما حفزتني على التواصل مع أصدقاء وأقارب في العديد من دول العالم للاطمئنان على صحتهم سيما تلك التي انتشر فيها الوباء بسرعة ويذهب فيها يوميا ضحايا بالعشرات مثل إيطاليا التي لم يتأخرشعبها يوماً عن التضامن والوقوف دوماً مع شعبنا وقضاياه العادلة وحقوقه في الحرية والكرامة الإنسانية دون شروط!