الرئيسية / مقالات
فيروس كورونا وإلغاء الحقيبة المدرسية
تاريخ النشر: الأحد 22/03/2020 14:49


بقلم: د. ســـائــد الــكـــونــي

كثير من الأهالي يتخوفون من ثقل الحقيبة المدرسية على صحة أطفالهم، وسبق للعديد من الكتاب في فلسطين والعالم العربي أن كتبوا حول مضار الحقيبة المدرسية على الأطفال، خاصة وهم في مراحل دراسية مبكرة، مستشهدين بدراسات علمية متطورة أجرتها مراكز بحثية متخصصة في دول متقدمة، ومنها دراسة ألمانية تشير إلى إصابة 19%، من الأطفال دون السادسة الذين شملتهم الدراسة، بتقوس الظهر. المفاجأة الحقيقية التي فجرتها تلك الدراسة هي أن نسبة الإصابة بالتقوس ارتفعت إلى 33% بين تلاميذ المدارس في سن 12- 14، وأكدت أن 60% من الأطفال يمرون بمعاناة آلام الظهر حتى بلوغهم سن الثامنة عشرة، أي أن مخاطر الحقيبة المدرسية لم تعد مقصورة فقط على صغار الأطفال كما يتخوف معظم الأهالي، حيث بينت هذه الدراسة، وغيرها من الدراسات، وجود أمراض وتشوهات في الرقبة والذراعين والكتفين والظهر والهيكل العظمي والعمود الفقري والمفاصل والقدمين بين جميع الفئات العمرية، بل وقد تسبب الحقيبة أحيانا ضغطاً على القلب والرئتين.

مساء الخميس الموافق 5/3/2020، أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس مرسوماً يُعلن فيه حالة الطوارئ في جميع الأراضي الفلسطينية لمدة شهر، اعتباراً من تاريخه، لمواجهة فيروس كورونا، وفور صدور المرسوم ووفق المعطيات المتوفرة لديه قرر رئيس الوزراء الفلسطيني د. محمد اشتية، تعطيل رياض الأطفال والمدارس والمعاهد والجامعات في كافة محافظات الوطن طيلة فترة الطوارئ. تباعاً أعلنت الأخيرة عبر صفحاتها الإلكترونية التزامها بتنفيذ ما صدر عن القيادة، وطمأن بعضها طلبتهم وأهاليهم بتشكيلهم لجان طوارئ أو ادارة أزمة، إحدى مهامها دراسة إمكانية مواصلة العملية التعليمية إلكترونياً، ما أثار التساؤلات في أذهان الكثيرين من الطلبة وذويهم حول ماهية التعليم الإلكتروني وأدواته ووسائطه ومدى نجاعته، بينما أعاد إلى ذهني محاولات عديدة في مجتمعنا لم يكتب لها النجاح للتخلص من ثقل الحقيبة المدرسية.

يعتبر التعليم الإلكتروني أحد الأشكال المتطورة لما يسمى بالتعلم عن بعد، وهو نظام تفاعلي للتعليم بين المُتعلم والمُعلم، يعتمد أساساً على استخدام الحاسوب وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات عبر الشبكات الإلكترونية المغلقة والإنترنت عموماً، لنقل المعارف والمعلومات والمهارات، وهو يتطلب وجود بيئة إلكترونية رقمية متكاملة من غرف تدريس افتراضية وأشرطة سمعية وأقراص مدمجمة وفيديوهات والعديد من القضايا التقنية والتكنولوجية التي لا يتسع المقام لذكرها والإسهاب في تفصيلاتها، مع إمكانية تلخيصها في ضرورة توفر البُنى التحتية الملائمة، من شبكات انترنت، بقدرة نفاذ عالية، تغطي كافة التجمعات السكانية في أنحاء الوطن، وأجهزة حاسوب حديثة، ومنصات إلكترونية تفاعلية فاعلة، ومحتوى إلكتروني مُعد بعناية لتحقيق أهداف تعليمية مُتفق عليها مُسبقاً، بالإضافة إلى وجود ثقافة مجتمعية متداولٌ فيها مصطلح التعليم الإلكتروني بين الطلاب والمعلمين وإدارات المؤسسات التعليمية وأولياء الأمور.

الإحصاءات المتوفرة حول التعليم الإلكتروني المدرسي، تشير إلى وجود اهتمام رسمي مبكر بتوظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث أُطلق في العام 2004 مبادرة التعليم الإلكتروني بغرض تحسين نوعية التعليم بواسطة استخدام التكنولوجيا، ووضعت استراتيجية للتعليم عن بعد من وزارة التربية والتعليم، تلاها تنفيذ مشاريع أجنبية متعددة تقدر بملايين الدولارات في هذا القطاع، وبرغم إصدارات وزارة التربية والتعليم بخصوص ما تم إنجازه في هذا المضمار. من الواضح أنه ما زال أمامنا الكثير ليتم إنجازه، وذلك ما عكسته الحالة الراهنة من نشوء تحديات صاحبت التطبيق لهذا النظام، تفاوتت في طبيعتها وحدتها، في المدارس العامة أو الخاصة على حدٍ سواء، وكذلك الحال بالنسبة لمؤسسات التعليم العالي.

تعيش الأراضي الفلسطينية اليوم ظروفاً استثنائية لم يسبق لنا أن خبرناها، وتتطلب أخذ العديد من الإجراءات الاحتياطية والوقائية غير الاعتيادية، ولربما غير السارة وغير المُريحة أيضاً، ولكن اقتضتها ضرورة الحفاظ على صحة أبناء شعبنا وسلامتهم أولاً، والسير قُدماً في شتى شؤوننا الحياتية بأقل الأضرار الممكنة ثانياً، ومن هنا كانت المُسارعة المسؤولة من القائمين على كافة المؤسسات التعليمية في الوطن، لتفعيل عملية التعليم الإلكتروني لديهم، مع أن الأزمة الراهنة أظهرت تفاوتاً في الاستعداد والجهوزية لهذه العملية التعليمية، التي على ما يبدو لم يكن من المتوقع لها أن تصبح وسيلة التعليم الرئيسية في مرحلة ما قريبة، في الوطن، وطبيعي والحال كذلك ما شهدناه أو سمعناه عن اشكاليات تطبيقية، ويُسجل خالص التقدير والاحترام والدعم، لكل جهد بُذل، وما زال يُبذل، في نشر وتفعيل العمل بثقافة التعليم الإلكتروني في مجتمعنا، قبل الأزمة وخلالها وبعدها.

وكما جرت العادة، نرى مع كل حالة أو حادثة مستجدة بروز محبطين ومشككين بجدوى ونجاعة أي إجراء جديد أو مُتجدد، متجاهلين النظر إلى الجزء الملآن من الكأس بدلاً من الفارغ، في أوقات نحن فيها أحوج ما نكون لرص الصفوف لمواجهة كل أمرٍ جلل. مع أنه يتوجب علينا، ومن منطلق المسؤولية والموضوعية، أن نُقر بوجود تحديات حقيقية لنجاح تطبيق نهج التعليم عن بعد على مستوى واسع في فلسطين، خلاف محدودية الإمكانات المادية واللوجستية التي أشرنا لها آنفاً، وأولاها يتمثل في ما أطلق عليه وزير خارجية الأردن الأسبق مروان المعشر نمط التفكير الذي يسود العملية التعليمية في عالمنا العربي بعامة، وذلك في مقالة له بعنوان "إصلاح التعليم: أي عالم عربي نطمح إليه؟"، نشرتها صحيفة القدس في عددها 18160 الصادر يوم الثلاثاء 3/3/2019، يقول فيها إن "كثيراً من الدول العربية تنفق بسخاء على التعليم، كما أن عالم التكنولوجيا الحديثة أتاح توفير نظم تربوية حديثة بإمكانات مادية في متناول اليد، ولكن المشكلة الأهم هو في نمط التفكير أحادي الجانب الذي يسود العالم العربي منذ زمن؛ حيث لا تزال أنظمته التعليمية مبنية على التلقين والحقائق المطلقة وقدسية رأي المعلم أو المعلمة غير القابل للنقاش، والتعليم من جانب واحد؛ من المعلم للتلميذ من دون تشاركية أو حوار يذكران؟"، ويقتبس من تقرير حول التعليم في العالم العربي صدر عام 2018، أن "النظم التربوية العربية لا تشجع (بل إنها لم تصمم لتشجع) روح المواطنة الديمقراطية التشاركية في جوانبها كافة"، في حين أن من أهم متطلبات نجاح التعليم الإلكتروني العمل على كسر الحواجز النفسية بين المُعلم والمُتعلم، وتحفيز المُتعلم على اكتساب معارفه بنفسه، حسب طاقته وقدرته وسرعة استيعابه ووفقا لما يمتلكه من خبرات ومهارات سابقة، بما يحقق التفاعلية في عملية التعليم وتحولها من طور التلقين إلى طور الإبداع والتفاعل وتنمية المهارات في أجواء تسودها المتعة والترفيه، ويترسخ في أثنائها مفهوم التعليم الفردي أو الذاتي.

وثانيتها، وبالقدر نفسه من الأهمية، لا بد من توفر سبل إرشاد وتوجيه متخصصة وتنظيم اختبارات خاصة، وإدارة المصادر والعمليات وتقويمها، بما يعني وجود طاقم بشري يتكون من إداريين وأكاديميين مؤهلين ومُدربين ومُهيئين للتعامل مع متطلبات عملية التعليم الإلكتروني من جهة، ووجود رغبة حقيقية ودافعية قوية لدى كلٍ من المُعلم والمُتعلم للاتصال والتواصل الدائم، وليس فقط في أثناء الأزمات أو الظروف الصعبة من جهة ثانية، بحيث تتكامل كامل هذه المعطيات مع بعضها البعض لتحقيق الأهداف التعليمية المرجوة. ومن منطلق أن أُولى خطوات حل أي مشكلة هي الاعتراف بوجودها ومن ثم البحث عن سُبل علاجها، فلا حرج من الكتابة عما كشفته الظروف الراهنة بالمجمل من قلة في الإعداد والتهيئة للكادر البشري، وكذلك الطلبة بما يفي بتحقيق متطلبات نجاح هذه العملية على نطاق واسع وتوفير قدر عالٍ من التفاعل بين أطرافها، وبالرغم من ذلك تمكنت العديد من المؤسسات التعليمية من اتخاذ إجراءات مكنتها من مواصلة رسالتها التعليمية عن بعد بأشكال مختلفة، ونجحت من خلالها في ملء بعض وقت طلبتنا، بما هو مفيد وهادف وايجابي، ولو بالحدود الدنيا، وكما يقول الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس): "أن تُضيء شمعة خيرٌ من أن تلعن الظلام".

وكلنا أمل في أن تتواصل هذه الجهود الطيبة في تطوير التعليم الإلكتروني كي لا ينحصر في كونه "فزعة" أو حاجة عرضية تطفو على سطح حالتنا الفلسطينية كلما طرأ طارئ أو جد جديد وتخبو بزواله، فهو ليس حالة استثنائية تقتضيها الضرورات، وإنما هو نهج حياة متواصل يجعل من طلبتنا منتجين للمعارف والعلوم دون قيود زمنية، بدلاً من كونهم مستهلكين لها في أوقات وأماكن محددة، ما يكسبهم مهارات التفكير الناقد والإبداعي والقدرة على تلبية حاجات سوق العمل في عصر أبرز سماته التغيرات والتطورات المستمرة والسريعة، وخلق المواطن الفلسطيني القادر على حل المشاكل الحياتية المتجددة ومواجهة التحديات المستمرة التي تعصف بمجتمعنا الذي لا زال يرزح تحت نير الإحتلال، بكل مسؤولية واقتدار، وفي ذلك مصلحةٌ للجميع. ولعلنا لا نجافي الحقيقة بقولنا إن بناء مجتمع واقتصاد المعرفة القائم على التعليم الإلكتروني والذكي، يعتبر ضرورة وطنية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وهذه دعوة لتضافر جهود القطاعين العام والخاص ومؤسسات المجتمع المدني كافة للوصول إليها، فالعبء كبير ويدٌ وحدها لا تصفق.

وعودة على ذي بدء فرب ضارة نافعة، فلعل حالة الطوارئ المعلنة في الأراضي الفلسطينية بفعل كورونا تُشكل حافزاً إضافياً لنا لتطوير كتب إلكترونية وفرض واجبات مدرسية تفاعلية تُفضي بالنهاية إلى تحقيق التوقعات التي أطلقها الفيلسوف الفرنسي (روجيه غارودي)، قبل أكثر من عشرين سنة، بإلغاء الحقيبة المدرسية، أو تخفيف وزنها، وذلك أضعف الإيمان!!!
 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017