الكاتب: د. حسن أيوب
أستاذ زائر في جامعة دنفر
أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية
تمكنت السلطة الفلسطينية على امتداد الشهرين الماضيين من التعامل بفعالية وجدية مع وباء "كورونا"، وكان لتحركها المبكر وإجراءاتها تأثير كبير على الحد من انتشار الوباء. بطبيعة الحال أثيرت العديد من الانتقادات على هذا الأداء على خلفيات متعددة، اخرها ما يتعلق بتوصية الحكومة للرئيس محمود عباس بتجديد/أو تمديد حالة الطوارئ خلافا للقانون الأساسي الفلسطيني. لست هنا بصدد تقييم أداء الحكومة والسلطة الفلسطينية، بقدر إبراز السياق الاستثنائي للوباء وما يفرضه من شروط مستجدة (فليس الفيروس وحده "مستجد") على المستويات الوطنية/المحلية الفلسطينية والعربية والدولية. ففي المنطقة العربية يمكن اعتبار انتشار الفيروس خبرا جيدا بالنسبة للأنظمة السلطوية والمستبدة، على الأقل على المدى القريب إذ يوفر لها مزيدا من المبررات لتعميق وترسيخ أدواتها القمعية. وبنفس الوقت، يدفعها إلى سياسات أكثر "دولتية" وعداءا للفعل الجمعي العربي. أما على المستوى الدولي فإن حدة الاستقطابات السياسية في تزايد ينذر بحروب باردة وساخنة على جبهات الاقتصاد والسياسة والقوة الناعمة، وربما تتدهور إلى ما هو أكثر خطرا. فقد باغت الوباء النظام الدولي وهو في حالة سيولة ولا يقين لجهة التوزانات التي تصنع استقراره، ولجهة تراجع فعالية المؤسسات الدولية التي تضبط تفاعلاته. كل هذه التغيرات الزلزالية -ومثلما كان الحال لعقود- تلقي بظلال ثقيلة على المشهد الفلسطيني، وبخاصة لناحية التوقعات بشأن ما ستقدم عليه اسرائيل قريبا من ضم لمناطق شاسعة من الضفة الغربية للسيادة الاسرائيلية من خلال قانون سيقدم للكنيست الاسرائيلي.
في خضم هذه التحديات الكبرى والمخاطر الحقيقية التي تشكلها على القضية الوطنية الفلسطينية، أصدر الرئيس الفلسطيني قرارين بقانون يتعلق الأول بتقاعد "كبار موظفي السلطة الفلسطينية"، والثاني حول صلاحيات وسلطة "ديوان الرئاسة الفلسطيني. وإن كان الرئيس قد أصدر قرارا بقانون يلغي الأول فإن صدوره في المقام الأول يعد كارثة سياسية وقانونية ووطنية تبرر المخاوف المتزايدة لدى قطاعات واسعة من الفلسطينيين من استغلال السلطة التنفيذية ومراكز القوى لحالة الطوارئ لتحقيق مكاسب نفعية وسياسية، ومن تحويل الطارئ إلى دائم. ففي الوقت الذي يعيش فيه الفلسطينيون ضائقة غير مسبوقة، ويواجهون بإمكانيات شحيحة وباء كورونا تظهر القيادة الفلسطينية قدرا متدنيا من الحساسية ومن الإدراك تجاه الواقع.
لقد تم إلغاء القانون بفعل الضجة الكبيرة والاحتجاجات الفورية على صدوره، مع ذلك فإن مجرد صدور هذه القوانين يشير في أحد أهم جوانبه -التي تهمنا في هذه المقالة- إلى الاختلاط الكبير في الأولويات في مركز صنع القرار الفلسطيني. وفي الحالة الفلسطينية يبدو بأن التاريخ لا يفرض نفسه على السلوك السياسي للقيادة السياسية الفلسطينية.فقد أظهرت القيادات السياسية الفلسطينية تاريخيا عجزا مفزعا عن إدراك الواقع، وقدرة استثنائية على إيذاء قضيتها من ناحيتين: انشغالها القَبَلي بصراعاتها البينية ومصالحها الخاصة (الطبقية والحزبية والعائلية...الخ)، وتخلفها عن فهم الصهيونية و"اسرائيل" كأيديولوجيا، وكبرنامج عملي وسياسات. إن أهم ما يميز الصهيونية هو حركيتها واهتمامها المفرط بالتفاصيل، وديناميكية استغلالها للظروف الدولية والإقليمية لتتمكن من الاستمرار في التفوق العنصري على ثلاث جبهات مترابطة: التوسع الاستيطاني، التمدد الديمغرافي، والعسكرة. تتقدم الصهيونية في هذا السياق وكأنها تعمل وفق المثل الفلسطيني: "مجنون برمي حجر في بير"، فهي دأبت على خلق الأمر الواقع مراهنة على عدم قدرة خصمها على إبطال مفعول حركيتها، أو منعها.
لا يبدو بأن القيادة السياسية الفلسطينية الراهنة تشكل خروجا عن مألوف القيادة السياسية التاريخية بكل خصائصها ومظاهر عجزها. فالواقع الراهن يشير إلى عجز المنظومة الفلسطينية عن التصدي للتحدي الكبير والوشيك المتمثل بضم "اسرائيل" لغور الأردن والكتل الاستيطانية الكبرى، مدعومة بالقبول الأمريكي. وهو قبول تمت مأسسته في سلسلة القرارات الأمريكة السابقة لإدارة الرئيس ترامب، وبخاصة في إطار ما يعرف بخطة "صفقة القرن". في هذا الصدد لم تتخذ القيادة السياسية الفلسطينية أية قرارات أوخطوات جدية يمكن أن تشكل قاعدة سياسية ودبلوماسية وعملية لإحباط صفقة القرن وتطبيقاتها التي ستقدم اسرائيل على تنفيذها. فباستثناء التهديد المتكرر من قبل مسؤولي السلطة "بإنهاء العمل بالاتفاقيات الموقعة"، أو اعتبارها قد انتهت مثلما قال الرئيس الفلسطيني، لم تقدم السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير أي تصور عملي أو قرارات ذات تأثير. وهو بالمناسبة ذات التهديد الذي أطلقة الرئيس مرارا وتكرارا منذ العام 2015 إلى الحد الذي بات لا يأخذه أي طرف على محمل الجد. ومرد هذا العجز الفلسطيني يعود لتمسك القيادة السياسية الفلسطينية ببرنامج سياسي استطاعت "اسرائيل" القضاء عليه منذ زمن، وهو حل الدولتين.
وُلدت مقاربة حل الدولتين ميتة ومفرغة من المضمون بحكم انفصالها التام عن حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير من جهة، وعن شرط إنهاء الاحتلال الاستعماري-الاستيطاني بكل مكوناته وبناه، من جهة ثانية. وناهيك عن قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة بوصفه التعبير الأكثر فداحة عن الأثر الإنساني والحقوقي للمشروع الصهيوني في فلسطين، فإن مشروع حل الدولتين استند دوما إلى فكرة الحفاظ على دولة "اسرائيل" كدولة يهودية وديمقراطية بذات الوقت، مع كل ما يعنيه ذلك من تناقض بين التوصيفين. ولم يثمر أكثر من ربع قرن من التسوية منذ العام 1993 عن أي جهد عربي أو دولي جدي لتحقيق قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967، بل استطاعت "اسرائيل" بالرغم من كل الضجيج والاستنكار والقرارات الدولية أن تحيل هذه المقاربة إلى نكتة سياسية سمجة، إلى أن أتت "صفقة القرن". قلنا فور الإعلان عن هذه الصفقة بأنها تنطوي على جانب إيجابي -وإن كان غير مقصود- وهو إنهاء التلهي بوهم حل الدولتين، والذي يعكس سنوات من القبول الأمريكي الرسمي لسياسات "اسرائيل" التي كرست حقيقة لا يجوز بأي حال من الأحوال دفن الرأس في الرمال وإنكارها: وهي بأن الواقع القائم على أرض فلسطين من بحرها لنهرها هو وجود دولة واحده اسمها "اسرائيل".
وضعت "صفقة القرن" الفلسطينيين وجها لوجه أمام جثة حل الدولتين من خلال اشتراطاتها المستحيلة لتحقيق ما يوصف "دولة فلسطين الجديدة". وتتطرق الصفقة إلى تعبير دولة فلسطين دوما بين مزدوجي علامة التنصيص في إشارة صريحة إلى أن هذه الدولة هي بأحسن الأحوال مسألة احتمال. وحتى لو تحققت هذه الشروط وأخذت الموافقة الاسرائيلية (وهي شرط لازم) فإن ما سينتج هو غيتوهات فلسطينية محاصرة بالمستوطنات ونظم التحكم الاسرائيلية الشاملة، ولن تكون أكثر شرعية من نظام البانتوستانات الذي حاول نظام التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا فرضه وتمريره باعتباره تطبيق لاستقلال السود وحقهم في تقرير المصير، والذي رفضه المجتمع الدولي وأسقطته نضالات السود.
يعرض "إيان لوستيك" أستاذ العلوم السياسية في جامعة "بنسيلفانيا" في مقالة دقيقة صفقة كوشنير-ترامب بوصفها من الأعراض المشوهة لواقع لا يمكن إنكاره، وهو وجود دولة واحدة في فلسطين، هي "اسرائيل". يعتبر "لوستك" وبحق بأن "برادايم" التسوية المستندة إلى مشروع الدولتين قد تاكل وانهار، وبأن الأوان بعد إعلان صفقة القرن هو أوان الإقرار بذلك وتبني "برادايم" جديد (إدراك أنتولوجي جديد) لمقاربة إنهاء عقود من الصراع. فالموقع "الأنتولوجي" (الوجودي) للصفقة يتسق وينسجم تماما مع واقع وجود دولة واحدة تحكم كل مناحي الحياة في فلسطين. وهذا ليس مجرد توصيف للواقع، بل مواجهة للحقائق التي لا يريد أن يراها، أو يعمل على تمويهها، كافة الأطراف ولأسباب مفهومة. لكن أن يستمر الفلسطينيون بمجاراة هذا الخداع فهذا أمر مختلف، ولا يمكن تفسيره إلا بأحد عاملين أو كلاهما: الأول هو أن الوضع القائم بات مريحا بما تحقق من مكاسب بكل أشكالها، وبحيث باتت القيادة السياسية – على اعتلاله البنيوي العميق- تخشى من فقدانه باعتباره "إنجاز وطني،" وتخشى أكثر إن هي تحدته وأعلنت نهاية حل الدولتين أن تتكبد خسارة كل مشروعها وتقر بفشلها السياسي والاستراتيجي. أما الثاني فهو أن القيادة الفلسطينية لا زالت تعتقد بأن الاعتراض اللفظي واللجوء للمؤسسات الإقليمية والتهديد المتكرر بوقف العمل "باالتزامات" سيردع اسرائيل عن تنفيذ خططها المعلنة، وهو خيار يائس، يكشف عورة الضعف الفلسطيني المزمن في مواجهة سياسات "اسرائيل".تعتبر "اسرائيل" بأن الظروف الراهنة تشكل فرصة تاريخية ربما لن تتكرر لحل عقدة ضعفها التاريخي في الصراع مع الفلسطينيين، وهي عقدة الوجود الفلسطيني الراسخ على الأرض الفلسطينية والتوازنات الديمغرافية الراهنة والمتوقعة. هذا الواقع الفلسطيني هو ما سيفضح "ديمقراطية" اسرائيل، إذ ستواجه الصهيونية واسرئيل السؤال الأخلاقي المتعلق باللامساواة والذي يمس بجذر شرعية المشروع الصهيوني برمته مثلما يشير البروفسور رشيد خالدي في خاتمة مؤلفه الأخير "حرب المئة عام على فلسطين". وهي عقدة لا حل لها بالنسبة لإسرائيل إلا بالاتي (ودوما حسب رشيد خالدي): - تنفيذ عملية تطهير عرقي جديدة بحق غالبية الفلسطينيين، وهو احتمال غير مستبعد في الظرف الراهن رغم ما يواجهه من صعوبات. فهذه الصعوبات لم تمنع استمرار اسرائيل بسياسات التهجير الداخلي والتطهير على مستويات محلية؛ - أو قبول اسرائيل بتفكيك بنى تفوقها الكولونيالي كأساس لمصالحة حقيقية، وهو احتمال بعيد إذا ما أخذنا بالاعتبار ليس فقط العمق التوراتي للمشروع الاستعماري-الاستيطاني الصهيوني، بل كذلك الانزياح الهائل في السياسة الاسرائيلية نحو اليمين الفاشي.
يبقى احتمالان لا ثالث لهما: فرض تسوية من طرف واحد استنادا إلى صفقة القرن وحل "عقدة" الوجود الفلسطيني بتحويله إلى تجمعات مفككة ومرتبطة أمنيا واقتصاديا وحياتيا ببنى التحكم الاسرائيلية، أو تبني الفلسطينيين لاستراتيجية شاملة تقر أولا بانتهاء وهم حل الدولتين الذي لم يقدم سوى هامش زمني وقانوني وسياسي هائل استغلته اسرائيل في سحق ما تبقى من احتمالات ممارسة الفلسطينيين لحقهم بتقرير المصير في دولة مستقلة. بغير ذلك فإن "اسرائيل" ستستمر في رمي حجارة الأمر الواقع في البئر العميقة للعجز الفلسطيني وحالة الإنكار السياسي لنهاية مشروع الدولتين.