مخطئ من يعتقد أن دولة الاسلام في العراق والشام (داعش) قد ولدت من مخاض طبيعي, وكنتيجة لحمل شرعي, أو جاءت تعبيرا عن رفض شعبي لواقع مغاير لتطلعات وطموحات شعوب المنطقة, أو أنها جاءت كرد فعل لحالة الإنحطاط الحضاري الذي يعيشه وطننا العربي, لتستنهض هذه الأمة, وتحقق نهضة طالما كنا نتوق لها, تعيد للأمة أمجادها وزهوها؛ بل جاءت داعش من رحم المؤامرة الأمريكية الصهيونية ومخططاتها الشيطانية ضد أمتنا العربية, باعتبارها الوسيلة والأداة لتنفيذ هذه المخططات, بعد أن منيت كل مخططات تقسيم الوطن العربي ومشاريع الشرق الأوسط الجديد والكبير ومسرحية الربيع العربي ومهازلها بهزيمة نكراء ومفضوحة, وتكسرت على صخرة الصمود الأسطوري للشعب والجيش العربي السوري, على الرغم من أن داعش كانت تنفذ هذه المخططات بمنتهى الدقة والالتزام بتعليمات صانعيها من الأمريكان والصهاينة.
تنبني مقومات نجاح وتمدد داعش على جملة من الأسس والأركان, تتعلق بالتمويل والتسليح وتوفر الدعم اللوجستي وخاصة العسكري منه والبيئة الحاضنة واللعب على الوتر الديني لدى فئات يسهل إقناعها وإغرائها, والأهم من ذلك مدى قدرتها على الحفاظ على المصالح الأمريكية والصهيونية وتعارضها مع هذه المصالح, وفي المقوم الأول اعتمدت داعش على التمويل السعودي والقطري بالدرجة الأساس, فيما ساهمت قوى أخرى في تمويلها بدرجات أقل تأثيرا ومنها الولايات المتحدة, بينما شكلت أميركا المزود الرئيسي لداعش بالتجهيزات العسكرية والتسليحية وفتح الآفاق أمام تجار السلاح لممارسة دور هام في هذا الاتجاه, فيما تولت أجهزة الإستخبارات الأمريكية والصهيونية والتركية توفير كافة أشكال الدعم اللوجستي لداعش, بدءا بتقديم المعلومات الإستخبارية التي ساعدتها على تحقيق إنجازات عسكرية على الأرض, وصولا إلى معالجة جرحاها في مستشفيات الكيان الصهيوني, ضمن تناغم استخباري فريد لم تشهد له المنطقة مثيل, أما البيئة الحاضنة فقد كان من السهل على داعش توفيرها من منطلق ارتباطها بعوامل اللعب على الوتر الديني, خاصة وأن مجتمعنا العربي في بعض فئاته لا يزال يندفع عاطفيا نحو المؤثر الديني كأمر مسلم به, مما سهل عليها تجنيد عشرات آلاف المقاتلين ممن استطاعت أن تنفذ إلى عقولهم المتحجرة وتمارس عليهم سطوة العامل الديني, وإغرائهم بالمال حينا وبنزعة الإيمان بالغيبيات كالجنة والحور العين وما إلى ذلك, وأن من لا يوالي داعش كافر مصيره إلى جهنم وبئس المصير.
ومع سيطرة داعش على حقول النفط في شرقي سوريا وبدء سرقته وتسويقه عبر تركيا شعر قادة داعش بما يمكن تسميته نشوة المال والسلطة, ومن هنا تفتحت قريحتهم نحو زيادة مصادر التمويل من خلال توسيع الرقعة الجغرافية لسيطرتهم والتي تضم آبارا جديدة للنفط, مما دفعهم لتمتين سيطرتهم على محافظة الأنبار ومداهمة محافظتي صلاح الدين ونينوى في العراق, وبالتالي أصبحت داعش تملك مقومات أساسية لإعلان دولة الخلافة وخاصة مع سيطرتها على سد الموصل ومجرى نهر الفرات, ومع امتلاكها لمصدر التمويل الذاتي المتمثل بالنفط أصبح اعتمادها على التمويل السعودي والقطري لا يشكل أهمية بالنسبة لها, وأصبح هدفها احتلال المزيد من آبار النفط, فأعلنت أن الكويت ستكون ضمن حدود دولة الخلافة, فيما كانت تعتبر ذلك مدخلا نحو آبار نفط شرق السعودية, مما شكل أول تناقض في المصالح مع المملكة.
وحتى هذه المرحلة لم يكن هناك أي تناقض في المصالح والمخططات الإستراتيجية بين داعش وصانعيها, بل أن بعض الجهات من صانعي الاستراتيجيات الأمريكية اعتبرتها خطوة نحو تنفيذ خط أنابيب الغاز المعروف باسم خط السلام, الخاص بنقل الغاز من الخليج العربي نحو البحر المتوسط وصولا إلى أوروبا كبديل عن الغاز الروسي, إلا أن تحرك داعش نحو أراضي كردستان قلب كل الموازين في طبيعة ومجريات العلاقة الأمريكية مع داعش, لما تمثله كردستان من أهمية مطلقة للمصالح الأمريكية والصهيونية, وشعور السعودية والكويت بأن خطر داعش بدأ يطالها, مما دفع بأميركا إلى مواجهة داعش, ولكن باتجاه دحرها عن إقليم كردستان فقط, فيما استمرت بممارسة نظرة مغايرة لها في سوريا وباقي مناطق العراق, مما جعل هذه العلاقة تعاني من انكشاف طبيعتها أمام الرأي العام العالمي والعربي على حد سواء.
وعليه نعود إلى القول أن المحرك الأساسي للضربات العسكرية الأمريكية لداعش ترتبط بمدى تناغم وتوافق ممارسات داعش مع المصالح الأمريكية والصهيونية, ومخطئ من يعتقد أن أمريكا أو السعودية أو غيرها قد أصيبت بما يمكن تسميته صحوة ضمير, وحيث أن عالم السياسة لا يعرف نمط علاقات دائم أو عداوة دائمة, فقد نشهد في الأيام القادمة نوعا من التحولات في أنماط العلاقات في ساحات الشرق الأوسط, تعيد رسم خطوط المواجهات, ذلك أن العلاقات الدولية بمجملها يحكمها عاملين أساسيين: أولهما الأمن القومي وثانيهما العلاقات الإقتصادية وبالتالي فإن أي تحول في هذه العلاقات ينطلق منهما.