الرئيسية / الأخبار / فلسطين
الجوفة... رحيل دون وداع
تاريخ النشر: الثلاثاء 19/05/2020 14:33
الجوفة... رحيل دون وداع
الجوفة... رحيل دون وداع

كتب مفيد جلغوم

في منتصف أيار من عام 1948 بدأ الهجوم الصهيوني الكبير على المدن الفلسطينية ومنها مدينة بيسان وما جاورها من قرى، فيما عرف صهيونياً بعملية جدعون، التي هدفت لإحتلال أكبر قدر من الأراضي الفلسطينية في منطقة بيسان، وتهجير سكانها عنها، ومن هذه المناطق التي سنلقي الضوء عليها في هذا المقال مزرعة الجوفة غرب بيسان.
أختلف المؤرخون الفلسطينيون ممن أرخوا للنكبة بشأن ذكر الجوفة من عدمه في قائمة المواقع التي تم احتلالها وتهجير سكانها، فقد ذكرها القلة فقط وأهملها الباقون؛ ويعود هذا الاختلاف الى التسمية الرسمية لموقع الجوفة هل هو قرية أم خربة أم مزرعة. فمن اعتبرها قرية أو خربة فقد أرخ لها وذكرها في قائمة القرى المدمرة، أما من اعتبرها مزرعة فقد أسقطها من تلك القائمة. ولكن سواء أكانت الجوفة قرية أم خربة أم مزرعة فهي موقع سكني فلسطيني تم إحتلاله خلال النكبة وهجر عنه سكانه حتى اليوم.
ولكن ما الحقيقة ؟ هل الجوفة قرية كباقي القرى؟ أم أنها أقل شأناً وسكاناً؟ أم هي مزرعة تابعة لموقع آخر؟ بحسب الروايات الشفوية التي قمت بجمعها عن الجوفة ممن عاصروا تلك الفترة، وبعضهم عاش فعلاً فيها سنوات طفولته الأولى، وبحسب الاستخدام العام للمباني التي أقيمت، وتخطيطها العمراني، يمكننا الجزم بأن الجوفة لم تكن قرية قائمة بذاتها كباقي القرى الفلسطينية، وكذلك لم تكن خربة كالخرب المعمرة رغم وجود بعض الآثار فيها. بل كانت الجوفة مزرعة موسمية لأهالي قرية فقوعة الذين اعتلوا الجبل كمكان سكن دائم لهم، رغم أن أراضيهم الزراعية الخصبة وينابيع مياههم تقع في الغور المعروف بسهل بيسان.
ولكن لماذا هذا الجزم؟ يعود ذلك لعدة أسباب منها أن لكل قرية مقبرة يدفن فيها الأموات، لكن سكان الجوفة لم ينشئوا لهم مقبرة، بل اكتفوا بمقبرة قريتهم الجبلية فقط. وكذلك الاقامة الموسمية لأهل الجوفة فيها وقت العمل الزراعي في الشتاء والربيع، على وجه الخصوص، وأوائل الصيف، ما لم يزرعوا الموسم الصيفي بالسمسم والذرة.وكذلك خلو الجوفة من مدرسة، فقد اكتفوا بارسال أبنائهم الى مدرسة قريتهم الأصلية فقط. بل أنه لم يكن لتجمعهم مختار أو شخص ذو صفة رسمية، وأخيراً فقد قيدت الأراضي الزراعية الخاصة بهم في الوثائق العثمانية بإسم قرية فقوعة، وان أشير أحيانا الى موقع قطعة الأرض على أنها في الجوفة للتحديد.
أسست مزرعة الجوفة مع نهاية القرن التاسع عشر تقريباً، واكتمل تأسيسها في الربع الأول من القرن العشرين، بحث ابتنى كل مزارع له قطعة أرض في سهل الجوفة بيتاً له فيها، ومع الزمن تجمعت المباني في تجمع عمراني واحد كالقرية، وبذلك كان له بيتان في نفس الوقت الأول على قمةجبل فقوعة والثاني في سهل الجوفة، فكان يقيم اقامته الدائمة على الجبل، وفي موسم العمل الزراعي ينزل الى الغور ويباشر عمله اليوم في حراثة الأرض والاعتناء بالمزروعات وحصادها، ومن ثم يجمع محاصيل الحبوب الشتوية خاصة القمح والشعير، ومن ثم يصعد الجبل، حيث الجو أنسب ومكان اقامته الدائم.
ولكن لما بنى الناس بيوتاً دائمة من الحجر، وليس من بيوت الشعر حتى يسهل نقلها وقت الحاجة، سيما أن لهم بيوتاً أصلية؟ الجواب على هذا التساؤل يحدد لنا الطبيعة الوظيفية لتلك البيوت والتجمع العمراني بشكل عام. فقد ابتعدت مساكن القرية عن أراضيهم الغورية كثيراً، وحال بينهما جبل أشميصعب عليهم نزوله صباحاً وصعوده مساءً، طيلة أيام العمل الزراعي، وهي كثيرة. ومن هنا كان التفكير الخلاق ببناء بيوت للنوم بها قرب حقولهم؛ توفيراً للوقت والجهد اليوميان معاً. أما لماذا من الحجر وليس من الشعر، فهذا يرتبط بتراثهم الريفي وتعلقهم به أكثر من التراث البدوي، ذلك أن أصول سكان القرية من الريف الفلسطيني وليس من البدوي، ناهيك عن أسباب أخرى من قبيل الحماية الأفضل للحجر، ومناسبته أكثر لتخفيف حرارة الغور، وخصوصيته العائلية سيما وأن كل أفراد الاسرة يرحلون من القرية الى المزرعة معاً، ومن هنا أطلق عليها البعض تسمية " خشاش الجوفة "، وهي مفرد خشة بالعامية، أي الغرفة البسيطة المبنية من الحجر واللبن.
جغرافيا تتبع الجوفة قضاء بيسان بسبب القرب منها، ولكن ادارياً فكانت تتبع قضاء جنين؛ لملكية أهالي فقوعة تلك الأراضي وحيازتهم سندات ملكية فيها(كواشين عثمانية). ومن هنا فقد تأثرت الجوفة بالأحداث السياسية لقضاء بيسان أكثر مما تأثرت بأحداث قضاء جنين. فبعد حصار مدينة بيسان ومن ثم احتلالها وتهجير سكانها عنها، فقد احتلت الجوفة في نفس الفترة وهي الثاني عشر من أيار1948، ودون أن يسجل على ملاكها أنهم باعوا ولو شبراً واحداً من أراضيها، رغم المغريات المالية المهمة التي عرضت عليهم.
في هذا الوقت كان محصول الشعير قد حصد، وجزء من محصول القمح، ومنذ حصار بيسان الأول بداية أيار، اجتهد الفلاحون في جمع محاصيلهم، فقد أخبرنا من عاصروا تلك الأحداث أن الناس كانوا يعملون بالنهار، وينقلوا محاصيلهم في الليل، دون استراحة حقيقية. وما أن سقطت بيسان حتى كان السهل كله قد وقع بقبضة الاحتلال، فقد احتلت سهول الجوفة أيضاً، وينابيعها العذبة الكثيرة، والناس على عجل في نهاية ذلك الموسم الزراعي الذي لم يكتمل، ومن هنا قال لي أحد الرواة وهو يستذكر تلك الفترة بحرقة وألم شديدين، أن الناس غادروا الجوفة بما فيها من سهول وبيوت حتى دون وداع.
احتلت الجوفة، وهجر سكانها عنها منذ ذلك التاريخ، ولم يعودوا اليها، وما زالت ذكريات طفولتهم بها غضة طرية، وشوقهم الجارف متدفقاً في صدورهم كاليابيع التي شربوا وارتووا منها، وكأنها الجنة التي أخرجوا منها، كما خرج أبيهم آدم أول مرة، لكنها الجنان التي أحبوها واعتاشوا منها وألفوها،وما زالوا ممتلئين بالأمل أن لهم أو لأبنائهم موعدأً للعودة اليها، طال الزمن أم قصر.
اليوم لا أثر لبيوت الجوفة، فقد أمست تلة العبد التي كانت تقوم عليها بيوت- خشاش- الجوفة خاوية من حجارتها، وقد مر على آخر عشاء فيها اثنان وسبعون خريفاً. ولو قدر لها أن تبقى حتى الآن لأضحت قرية كاملة الأوصاف، ربما يهنأ بها آلاف الفلاحين الفلسطينيين، وسط بساتينهم الغناء، وعيون مياههم الرقراقة، وسبل معيشتهم الهانئة، الا أن الاحتلال قد أوقف عجلة الزمن بها، وقضى على أية إمكانية للعيش والبقاء بها، ولم يبق منها الا ذكريات موحشة ومؤلمة بوجع النكبة.

 

 

 


 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017