الرئيسية / مقالات
اثر التعديل التشريعي على انتداب القضاة واستقلالية القضاء
تاريخ النشر: السبت 30/08/2014 13:50
اثر التعديل التشريعي على انتداب القضاة واستقلالية القضاء
اثر التعديل التشريعي على انتداب القضاة واستقلالية القضاء

بقلم: د. رشا حماد / قاضي محكمة الاستئناف

تعد استقلالية القضاء من أهم الضمانات لنزاهته وحياديته وقوته ، ويعد النص التشريعي هو الركيزة الأساسية بل والوحيدة لتلك الاستقلالية ، فالنص القانوني هو الضمانة للقاضي عند قيامه بممارسة أعماله وهو الذي يكفل له عدم ممارسة أية ضغوط عليه من أي جهة كانت ، فيمارس عمله دون أي ضغط أو إكراه من أحد .

لقد كانت القوانين الناظمة للعمل القضائي في فلسطين كقانون تشكيل المحاكم النظامية و قانون السلطة القضائية وغيرها تشكل منظومة تدعم وتسند تلك الاستقلالية ، لا بل وتميّزت تلك المنظومة عن غيرها من التشريعات في العديد من الدول في ترسيخها لمبدأ الفصل بين السلطات ، وأثنى العديد من قضاة الدول المجاورة العربية والغربية على تلك النصوص وقدرتها في تمكين حيادية القضاء ونزاهته وشفافيته ، وحرصها على كرامة القضاة وهيبتهم . حيث يمكن للقاضي في فلسطين أن يمارس عمله وفق ما يمليه عليه ضميره والقانون فقط ودون أي شعور بالرهبة أو الخوف من ممارسة أي ضغوط بحقه . كما تَغَنّى بها الكثيرون في فلسطين سواء من داخل السلك القضائي أو من خارجه .

 

ونواجه الآن بعض التعديلات التشريعية التي تمس تلك الهيبة والكرامة ، وتشل قدرة النصوص القانونية عن حماية القاضي لا بل وتسمحبممارسةالضغوط عليه ، ونقصد تحديدا القرار بقانون رقم (15) لسنة 2014الصادر بتعديل نص المادة 35 من قانون تشكيل المحاكم النظامية والمتعلق بانتداب القضاة من محكمة إلى محكمة أخرى . فارتأينا ضرورة التعليق على ذلك التعديل ( مع التحفظ على التعديل بموجب قرار بقانون من حيث الأصل ) . نظرا لمساسه الخطير باستقلالية القضاء من جهة ، ومساسه بالتنظيم القضائي وسلامة الأحكام القضائية من جهة أخرى .

 

أولاً : مساسه باستقلالية القاضي .

لقد وردت المادة 35 من قانون تشكيل المحاكم النظامية بعد تعديلها وفق التالي :

" على الرغم مما ورد في أي تشريع آخر ، لرئيس المجلس أو لنائبه حال غيابه أن ينتدب أي قاض لأي محكمة أعلى أو أقل بدرجة واحدة لمدة لا تزيد عن سنه ، على أن يصادق مجلس القضاء الأعلى على ذلك في أول جلسة يعقدها بعد صدور قرار الندب ، ولمجلس القضاء الأعلى تمديد الانتداب للمدة التي تقتضيها مصلحة العمل وبما لا يتجاوز سنة أخرى . "

في حين كان النص السابق لهذه المادة كالتالي :

" لمجلس القضاء الأعلى أن ينتدب من حين إلى آخر ولمدة مؤقتة لا تزيد عن ستة أشهر قابلة للتجديد لمرة واحدة فقط أحد قضاة المحاكم .

أ . الاستئناف ممن تتوافر فيهم شروط العمل في المحكمة العليا .

ب. البداية ممن تتوافر فيهم شروط العمل في محكمة البداية ليجلس قاضيا في محكمة الاستئناف .

ج. الصلح ممن تتوافر فيهم شروط العمل في محكمة الاستئناف ليجلس قاضيا في محكمة البداية .

‌د. الاستئناف أو البداية أو الصلح ليجلس قاضياً في محكمةأخرى من ذات الدرجة.

 

 

ومن قراءة النص التشريعي السابق نجد أنه كان يحدد انتداب القضاة لمحكمة أعلى درجة دون إمكانية انتدابهم لمحكمة أقل درجة ، وهو الأمر الذي استقرت عليه كافة التشريعات المقارنة كالتشريع المصري و الأردني وغيرها من التشريعات العربية ، فقد ورد في نص المادة 23/ج  قانون استقلال القضاء الأردني وتعديلاته رقم 15 لسنة 2001  .

 " يراعى في الانتداب أن لا تكون الوظيفة أو العمل الذي انتدب إليه القاضي أدنى درجة من درجته أو العمل المنوط به ".

حيث يمس ذلك الانتداب هيبة القاضي وكرامته ، كما يشكل عامل ضغط وإكراه قد يمارس عليه من قبل رؤسائه فيسمح لهم بإيقاع عقوبات مقنعة بحقه ، يسندها ويجيزها النص التشريعي .

إن انتداب القضاة للعمل في درجة أعلى يعد الأصل العام الذي استقرت عليه كافة التشريعات ، ولا تجوز مخالفته إلاّ في حالات استثنائية ومحدودة كالضرورة الملحة أو المصلحة العامة وبموافقة القاضي نفسه ، والتشريعات التي أجازت تلك الحالة الاستثنائية قيّدتها بشروط ، إلاّ أنالتعديل المشار إليه لم يتطرق لأي شرط أو تقييد كهدف المصلحة العامة أو موافقة القاضي المعني مثلاً ، وعندما وردتعبارة "مراعاة مصلحة العمل"  جاءت في الفقرة الثانية من المادة أي مقصورةعلى أمر تجديد الانتداب إلى سنة ثانية ، مما يعني إمكانية انتداب القاضي للعمل في محكمة أقل درجة من درجته القضائية دون أي قيود ولا يشترط أن يتم هذا الانتداب بهدف تحقيق المصلحة العامة ، كما لم يرد أي نص يقيد ذلك الانتداب بموافقة القاضي المعني ، حيث سيضطر القاضي للعمل في درجة قضائية أقل من درجته لمدة سنة دون قيود ولا تشترط ضوابط للمصلحة العامة أو مصلحة العمل إلاّ عند التجديد للسنة الثانية ، وهو الأمر الذي يشكل تجاوزا على الأصل العام الذي تأخذ به كافة التشريعات ، ونزولا بالمستوى التشريعي الضامن لاستقلال القضاء .

لا يمكن أن ننكر بعض حالات الضرورة التي قد تقتضيبموجبها المصلحة العامة أو ضرورات خاصة إجراء هكذا انتداب (أي لدرجة أقل) ، إلاّ أن هذه الضرورة لا بد وأن تمارس في أضيق الحدود وتراعيهيبة وكرامة القضاء والقضاة ، ما يجعلها استثناء عن الأصل ، وهو ما انتهجته بعض التشريعات التي أخذت بذلك الاستثناء حيث قيّدت تلك الانتدابات بشروط ( المصلحة العامة وموافقة القاضي ) وذلك ضمانالاستقلال القضاء وحمايته ونزاهته ، وحتى لا يؤخذ النص المطلق على إطلاقه ، وجاء مثال ذلك نص المادة (35) من القانون العربي الاسترشادي للسلطة القضائية المعتمد بقرار مجلس الوزراء العرب رقم 620/21 لسنة 2005 والذي جاء فيه " لا يجوزنقل القضاة وأعضاء النيابة العامة أو انتدابهم إلى وظائف أدنى من درجاتهم ، إلاّ إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك وبموافقة صاحب العلاقة " .

إلاّ أن التعديل التشريعي الفلسطيني لم يقيّد النص بأية قيود مما يجعل من انتداب أي قاضي لدرجة أدنى من درجته بمثابة أصل في القانون ولم يعد بذلك استثناء كما تنظر إليه القواعد العامة لاستقلال القضاء .  فلم يعد أمر اللجوء إليه محدود بحاجة أو مصلحة ، ويخلق هذا بالطبع حالة لم يسبق لها مثيل في الاعتداء على كرامة القاضي وهيبته أضف إلى مساسهبالتنظيم القضائي بشكل كامل .

كما أن عبارة " بالرغم مما ورد في أي تشريع آخر " التي جاءت في مقدمة المادة المعدّلة ، تؤكد ذلك المساس حيث قانون السلطة القضائية رقم (1 ) لسنة 2002 المعني بتلك الاستقلالية والذي يضمن للقاضي كرامته وهيبته .

 

 

ثانياً : مساسه بالتنظيم القضائي وسلامة الأحكام القضائية .

يقوم التقاضي في فلسطين على درجتين تشمل الأولى منها محكمتيّ الصلح والبداية حيث يعمل بها قضاة الصلح والبداية ، ومحاكم الدرجة الثانية وهي محاكم الاستئناف حيث يعمل بها قضاة يحملون درجة الاستئناف . وقضاة الدرجة العليا العاملون في المحاكم العليا ( النقض – الدستورية – العدل العليا ) .وتخضع بالطبع محاكم الدرجة الأولى لرقابة محاكم الدرجة الثانية – فيما رفع فيه طعن – لعدة أسباب :

1.    الخبرة الأكبر التي يتمتع بها قضاة المحاكم الأعلى درجة ، فتؤهلهم تلك الخبرات في ممارسة الدور الرقابي على صحة وسلامة تطبيق القانون ، وبالتالي فسخ الأحكام أو تعديلها أو تصديقها . حيث يراعى في قضاة الدرجات العليا خبراتهم الفعلية في العمل القضائي ( سواءً في سلك القضاء أو في المهن الأخرى كأعوان القضاء ) .

2.    عمل تلك المحاكم على شكل هيئات قضائية ، حيث لا تنعقد من قاضي فرد بالمطلق ، والعمل بهذا الشكل يمكّن المحكمة من التشاور في الأحكام قبل إصدارها ( المداولة )  ، وبالتالي أخذ رأي أكثر من قاضي والاستفادة من خبراتهم بشكل أفضل وأكثر دقه لما يحققه هذا الأمر مناستقرار قضائي وثبات فكري قانوني يحقق المصلحة العامة  .

وحيث أن كافة القضاة على اختلاف درجاتهم يخضعون لذلك النص ، وحيث أجازالنصالمعدلانتداب القضاة الأعلى درجة للعمل في محاكم أدنى درجة –دون أية قيود– لا بل وقام ( معد التعديل ) بحذف عبارة " ممن تتوافر فيهم شروط العمل " أي لا يشترط مراعاة عدد سنوات العمل في تلك المحكمة الأقل درجة ليصار الانتداب للمحكمة الأعلى درجة ، وفي ذات الوقت تجيز انتداب القضاة الأدنى درجة للعمل في المحاكم الأعلى درجة ، فإن ذلك يعني وعلى المدى الطويل قيام القضاة الأدنى درجة بالرقابة على الأحكام الصادرة عن القضاة الأعلى درجة ، فينخلط الحابل بالنابل ، والأقدم بالأحدث ، ومن المحال عندها أن نرى استقراراً قانونياً قضائيا يطمح له شعب عذّبته ويلات ، ويأمل في قضاء يقيه آهات .

إن الرغبة في الإصلاح أو التعديل لن يكون بسن تعديلات تشريعية تمس استقلالية القاضي وتنتقص من قدره أو تهدر كرامته أو تمنح فرصاً للغير باستغلالها وممارسة الضغوط عليه . بل تكون بنظرة شمولية  قادرة على تعديل أسس تقوم عليها تلك المنظومة القضائية ، وقد تكون تجارب الدول الشقيقة كالأردن مثلاً جديرة بالأخذ بعين الاعتبار ، حيث تُفصل الدرجات الإدارية للسادة القضاة ( والتي يتمتعون بموجبها بالبدلات المالية والامتيازات الأخرى ) عن الدرجات القضائية التي لا تأخذ بعين الاعتبار سنوات الخبرة فقط بل تقارير دوائر التفتيش القضائي أيضا ، وسلامة وصحة الأحكام الصادرة عن القضاة قبل ترفيعهملدرجة قضائية أعلى ، ليس هذا فحسب بل إن تلك التجربة دأبت بالاهتمام بالقضاة المتميزين بشكل خاص وتمكينهم من إكمال دراستهم العليا للارتقاء بالمستوى القضائي للسنوات القادمة وبناء مستقبل قضائي أفضل بقضاة أفضل . وهو ما تحتاجه المؤسسة القضائية في فلسطين والقضاة كذلك ، مؤسسة تهتم بشؤونهم وتساعد في ارتقائهم الفكري والقانوني والاجتماعي وترعى حقوقهم لا نصوص تشريعية تجتزئ من حقوقهم وتمتهنهم .

 

 

 

 

تابعونا على فيسبوك
تصميم وتطوير: ماسترويب 2017