في عالمٍ بعيد عن هنا، يسوده الخراب وسوء الحال، أفعالٌ لن تُغتفر، وسيحمل ضحيَّتها أجيالٌ أخرى لن تعرف ساكِنيه الآن، ولكنَّها ستعرف ماذا فعلوا من قبل وستتحمَّل ذنب أخطائهم.
ومن هنا تأتي البداية، أو لعلها نهايةٌ من نوعٍ آخر لا تُحمَد عقباه.
وأمّا بعد، فإنَّ الجهل والعنف، العدائية والانطوائية، العزلة وقلة الوعي، انحدار مؤشرات التربية، الأمراض النفسية والعصبية والتي تصيب أطفالنا، بازدياد، وتحتاج منّا البحثَ عن حلول، لا المضيّ قدمًا والتسليم للأمر.
وأمّا قبل، فنحنُ بحاجةٍ للبحث عن الأسباب. وإذا ما نظرنا أمامنا، سنلاحظ:
أولًا: الهواتف النقّالة أصبحت جزءًا لا يتجرأ من حقيبةِ الطفل التي كانت تُخصَّص للطعامِ فقط مع لعبته المفضلة المحشوة بالسلام والكلمات البريئة.
ثانيًا: طبيعة الألعاب في الهواتف النقّالة تدفع إلى العنف غالبًا، وتغيبُ عنها فكرة اختلاف الأعمار، وتتيح للجميع المشاركة من دون أدنى رقابة، وهذا ما يؤثِّر سلبًا على الأخلاق.
ثالثًا: عدم مراقبة الألعاب وما تحتويه من رسائل مبطنة ستراها بعينيك ظاهرة مع الأعوام.
رابعًا: ابتسامة العائلة وتفاخرهم بطفلهم الذي يُجيد التحكّم بالهاتف والإنترنت، واعتباره الأذكى بين أقرانه.
خامسًا: اعتبار الهاتف الفرصة الأنسب للتخلص من ضجيج الأطفال ومشاكساتهم. وهذا بالتحديد، سترى العائلة نتائجه لاحقًا، وستدرك أن ضجيج الطفولة الخامد، ليس إلا نارٌ ستشتعل في مرحلةٍ هم الأكثر تطلعًا لرؤية ثمار زرعها.
سادسًا: انشغال الأطفال بهواتفهم، يسلب جزءًا من قدرتهم على تكوين العلاقات الاجتماعية ويُفقدهم سُبل التواصل، ويؤول بهم إلى العزلة والأمراض النفسية.
سابعًا والأهم: "أنت" إن كنت تظن أن هذه الأسباب لا تشكِّل خطرًا، ولا تستحق منك الاهتمام.
وإليك بعضًا من التساؤلات التي ستقدّر لك حجم الكارثة:
كم من الوقت تقضي مع طفلك؟ وما هي المواضيع التي تتحدثون عنها؟ وما التصرفات التي تلاحظ أنها تتغير في سلوكه باستمرار؟ وما طبيعة الكلمات التي يتفوّه بها غالبًا؟ وما مدى المعرفة التي يمتلكها بالتوافق مع مستواه الذهني؟ وإن سألته عن تاريخ الوطن ومكان تواجده، أو لنَقُل عاصمةَ بلاده، هل سيُجيب؟
وهل يقضي معك الوقت الأطول أم مع هاتفه النقال؟ وهل يتقلَّص هذا الوقت مع تتابع الأيام؟
وهنا، إن كانت الإجابة "نعم" فعليك المباشرة بإيجادِ حلٍّ جذريّ، ولعلَّ الحل الأفضل هو التخلص من هاتفه مهما كانت البدايات متعبة، والاستمتاع بقضاء أوقاتكم سويًا والبدء بعملية إعادة التربية والاحتواء من جديد.
وإن كانت الإجابة "لا"، فهذا ما أتمنى استمراره.
ومع هذا كُن حذرًا، وتذكَّر أنَّ العائلةَ تمثِّلُ الحضن الأوسع على الإطلاق، وما إن ضاق عليهم، فلن يعطي حجمَ حنانه أحدٌ أو شيءٌ آخر. وأنَّ الأطفال لا ذنب لهم بسوءِ الحال، ويستحقون منّا الأفضل.