تواجه الجامعة العربية موقفا غير مسبوق تمثّل في اعتذار ست دول عن تولي الرئاسة الدورية لمجلس الجامعة على مستوى وزارء الخارجية بعد اعتذار فلسطين عن استكمال الدورة الحالية التي تنتهي في مارس/آذار المقبل، في وقت تزداد فيه هوّة الخلافات في عدة ملفات رئيسية في مقدمتها الصراع العربي-الإسرائيلي.
قال السفير حسام زكي، الأمين العام المساعد للجامعة العربية، في تصريحات لبي بي سي إن كل الدول التي تلي فلسطين في الترتيب الأبجدي والتي عُرضت عليها رئاسة الدورة الحالية رفضت تولي رئاسة "منقوصة" لمدة زمنية قصيرة.
وأوضح السفير زكي أن فلسطين بدأت رئاستها للدورة الحالية لمجلس الجامعة لمدة ستة أشهر ببيان افتتاحي يمثّل خطة العمل والرؤية الفلسطينية لإدارة العمل داخل الجامعة خلال فترة رئاستها، غير أنها اعتذرت عن استكمال المهمة في منتصف الطريق، ومن المفترض أن تخلفها الدولة التي تليها في الترتيب الأبجدي.
ويقول الأمين العام المساعد للجامعة إن الأمر عُرض على كل من قطر، وجزر القمر، والكويت، ولبنان، وليبيا لاستكمال قيادة الدورة الحالية لمجلس الجامعة حتى مارس/آذار المقبل، غير أنها جميعا اعتذرت عن تولّي المهمة.
ويرى زكي أن الرئاسة الدورية لمجلس الجامعة تمثل شيئا بالغ الأهمية لأي دولة عضو بالجامعة وأن هذه الدول تقوم بالترتيب لهذا الأمر ببيان افتتاحي وآخر ختامي وخطة عمل واضحة المعالم تتطلب وقتا للتجهيز، وهو أمر غير متاح مع الاعتذار الفلسطيني المفاجىء عن استكمال هذه الدورة.
اعتذارات متتالية
كانت فلسطين قد اعتذرت قبل نحو أسبوعين عن استكمال رئاسة الدورة الحالية لمجلس الجامعة على خلفية ما وصفه وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي بموقف الأمانة العامة للجامعة الداعم للإمارات والبحرين في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بالمخالفة لمبادرة السلام العربية.
كما قررت دولة قطر عدم قبول تولي الرئاسة الدورية لمجلس الجامعة بعد الاعتذار الفلسطيني، مع احتفاظها بحقها في رئاسة الدورة المقبلة في مارس/آذار المقبل.
وتكررت الحال مع كل من الكويت، وجزر القمر، ولبنان. ومؤخرا اعتذرت ليبيا عن رئاسة مجلس الجامعة، مشيرة إلى أن الظروف غير مواتية لهذا الأمر.
وقال محمد القبلاوي المتحدث باسم الخارجية الليبية في تغريدة عبر موقع تويتر إن بلاده تتطلع لممارسة حقها في رئاسة مجلس الجامعة العربية "في ظل ظروف أفضل من الحالية".
وأضاف القبلاوي أن ليبيا تتمسك بحقها في الرئاسة الدورية لمجلس الجامعة وفق اللوائح الداخلية والترتيب المعمول به.
تراجُع إقليمي ودولي
يرى مراقبون أن هذه الاعتذرات تعكس تراجعا في دور الجامعة على الصعيدين الإقليمي والعالمي، في ظل اتساع الخلافات بين الدول العربية حول قضايا رئيسية أبرزها الصراع العربي-الإسرائيلي، والأزمات في سوريا، واليمن، وليبيا، وكذا العلاقات مع تركيا، وإيران.
ويقول خطار أبو دياب، المحلل السياسي المقيم في باريس، إن الجامعة العربية محكومة بالتوافق بين الدول الأعضاء فيها، وليس فيها نمط للتصويت الديمقراطي الحقيقي لاتخاذ القرار.
ويضيف أبو دياب خلال حديثه لبي بي سي أن الدول العربية تظل أسيرة لمصالحها الخاصة وتحالفاتها الإقليمية والدولية، ولهذا فإن القرار - بحسب خطار أبو دياب- ليس مستقلا خالصا ولا يعكس دوما التوافق العربي على حدّ قوله.
ويشير أبو دياب إلى أن الحل يكمن في تحوُّل هذه المؤسسة إلى منصة للتعاون الاقتصادي أو الثقافي والاجتماعي بدلا من قَصر اهتماماتها على الأمور السياسية التي دائما ما تكون محل تجاذبات وخلاف.
الشرق الأوسط الجديد
ويقول عبد الله الأشعل، مساعد وزير الخارجية سابقا، والمرشح الرئاسي السابق في مصر، إن دور الجامعة العربية انتهى تماما باندلاع "ثورات الربيع العربي"، وإنها لم تعد تلبي طموحات الشارع العربي في الوحدة وتبني القضايا الرئيسية وفي مقدمتها الصراع العربي الاسرائيلي أو الأزمة السورية، حيث أصبحت التدخلات من خارج المنطقة العربية هي المؤثر الرئيسي في أغلب هذه الأزمات.
ويقول الأشعل إنه إذا استمرت وتيرة قرارات الدول العربية المؤيدة للتطبيع مع إسرائيل فإن دور الجامعة العربية سينتهي تماما خلال فترة قصيرة، باعتبار أن هذه القضية كانت تمثل الحد الأدنى من التوافق بين الدول العربية، رغم ما كانت تواجهه من ضغوط خارجية دولية مثل تلك التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية
ويوضح الأشعل أن الجامعة العربية سوف تنتهي كمنظمة إقليمية في غضون العامين المقبلين على أقصى تقدير، ويحل محلها "منظمة الشرق الأوسط الجديد" التي تقودها إسرائيل بدعم من المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية، مشيرا إلى عدم وجود إرادة سياسية لدى قيادات الدول العربية لإصلاح الجامعة العربية أو تغيير نمط اتخاذ القرار فيها.
إصلاح سياسي؟
ويختلف عاطف سعداوي، الباحث بالمركز العربي للبحوث والدراسات، مع هذه الرؤية ويقول خلال حديث لبي بي سي إنه لا بديل عن الجامعة العربية كقاطرة لإدارة العمل العربي المشترك باعتبارها تمثل الحد الأدنى للتوافق والجلوس إلى مائدة الحوار حول القضايا التي تهمّ الدول الأعضاء فيها.
ويوضح سعداوي أن الفترة الماضية شهدت محاولات لإصلاح الجامعة العربية من خلال تبنّي مبادرات لتعديل ميثاق الجامعة العربية، وتعديل أسلوب اتخاذ القرار فيها، ودعم مؤسساتها ماليا وسياسيا، غير أن هذه المبادرات "افتقرت إلى الحد الأدنى من التعاطي مع المتغيرات الإقليمية والدولية التي تعصف بالمنطقة"، ومن بينها الحرب على الإرهاب أو تغير الرؤى الدولية بشأن إدارة ملفات المنطقة الشائكة مثل الصراع العربي-الإسرائيلي، والأزمات في سوريا، وليبيا، واليمن، وكذا العلاقات بين دول المنطقة وكل من تركيا، وإيران.
ويرى الباحث أن الإصلاح الحقيقي يأتي من خلال مبادرات إصلاح تأخذ في الاعتبار أن هناك خلافات عربية-عربية حول قضايا جوهرية، وأن هناك تباينًا في المصالح والاهتمامات؛ فالإصلاح من وجهة نظره "ليس إصلاحا قانونيا هيكليا ولكنه إصلاح سياسي".
انتكاسة كبرى
أما نبيل عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، فيرى أن الجامعة العربية "لم تكن يوما قاطرة للعمل العربي المشترك"؛ وأن وجودها كان "مرحليا" لإيجاد منبر للدول التي كانت تحت الاستعمار في أربعينيات وحتى سيتينيات القرن الماضي.
ويقول عبد الفتاح إن الجامعة العربية مرّت بمراحل صعود وتحديات كبرى منذ تأسيسها عام 1945 باعتبارها أقدم منظمة إقليمية في العالم، غير أنها تعرضت لانتكاسة كبرى بعد هزيمة 1967 ووفاة الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر الذي كان لديه رؤية قومية تدعو إلى توحيد القرار العربي في مواجهة التحديات الدولية والأزمات الكبرى.
ويقول أستاذ العلوم السياسية إن الجامعة العربية في المرحلة الحالية تظل أسيرة لصراع بين معسكرين رئيسيين، الأول يتمثل في دول الخليج التي تضغط بأموالها على القرار السياسي للجامعة، والآخر يتمثل في الدول المؤسِسة للجامعة ومنها مصر والجزائر وغيرهما، والتي تسعى لاستقلال القرار العربي، وتعديل ميثاق الجامعة من أجل مزيد من الإصلاحات السياسية والهيكلية، على حد قوله.
ويشير ميثاق الجامعة العربية إلى أنها تسعى لتوثيق الصلات بين الدول العربية، وصيانة استقلالها، والمحافظة على أمن المنطقة العربية وسلامتها في مختلف المجالات، غير أن الواقع الفعلي على الأرض يجد أنها باتت ساحة للصراع والتعبير عن إرادات سياسية متباينة وتصفية الخلافات العربية-العربية، بانتظار وجود ما يصفه البعض بإرادة سياسية للإصلاح تخرج بها من دائرة المصالح الضيقة إلى آفاق التعاون في مختلف المجالات.
bbc