بقلم: هاني المصري
كان من المفترض أن يُعقد لقاء الأمناء العامين بعد أسبوع من اجتماع إسطنبول، الذي عقد بتاريخ 24/9/2020، وذلك من أجل إقرار وتطوير "تفاهمات إسطنبول"، وفتح الطريق لإصدار المرسوم أو المراسيم لتحديد مواعيد إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني، غير أن الاجتماع لم يُعقد حتى اللحظة، ولم يُحدد موعد لعقده، ما يعني أن هناك عِصِيًّا محلية وإقليمية ودولية وضعت في الدواليب.
فما هذه العصي، وكيف يمكن لقطار المصالحة أن ينطلق ويصل إلى محطة الوحدة بسرعة وثقة وأمان؟
اعتبرت واشنطن وتل أبيب الحوار الفلسطيني وإقرار التوجّه إلى إجراء انتخابات تُجدّد شرعية السلطة والقيادة القائمة وتدمج حركة حماس في السلطة، وربما في منظمة التحرير، أمرًا غير مناسب بالمرة، شكلًا ومضمونًا ومن حيث التوقيت، كونه يُقوّي الموقف الفلسطيني في مواجهة مؤامرة ترامب نتنياهو، ومسلسل التطبيع العربي مع إسرائيل الذي يسعى لبلورة تحالف يعيد النظر في الأولويات العربية، ويؤدي إلى تهميش القضية الفلسطينية.
واستخدم أطراف هذا التحالف عقد جولة من جولات الحوار بين حركتي فتح وحماس في إسطنبول ذريعة لتبرير التخلي عن الفلسطينيين، بحجة أنهم اختاروا محور تركيا وقطر، وهو أمر مخالف للحقيقة بغض النظر عن مدى الحكمة أو صحة أو عدم صحة عقد الاجتماع في تركيا في ظل التجاذبات والمحاور الإقليمية، مع وجود إمكانيات لعقده في مصر وروسيا والجزائر، بدليل أن الجولة القادمة من الحوار التي ستضم الأمناء العامين من المفترض أن تعقد في القاهرة، التي رحبت باستضافة الحوار، مع التساؤل حول مدى جدّية الجولة القادمة، وقدرتها على إحداث اختراق.
يُسجّل للمحاولة الجارية أنها مختلفة عن سابقاتها وأكثر جدية، كونها تجري أساسًا في ظل أن الأخطار التي تهدد القضية الفلسطينية بعد مؤامرة ترامب نتنياهو، ومخطط الضم، ومسلسل التطبيع العربي، أكبر من سابقاتها، وتهدد حركتي فتح وحماس ومختلف الفصائل والشعب الفلسطيني. وزاد من خطورة هذه المخاطر الحديث المتكرر والمتزايد والتلويح باستبدال القيادة إذا لم تلتحق بقطار التصفية للقضية الذي انطلق ولا يراد له أن يتوقف، بغض النظر عن الفائز في الانتخابات الأميركية القادمة بعد أسبوعين، فالفرق بين دونالد ترامب وجو بايدن مهم، ولكنّه بين من يريد تصفيتها بالجملة ومرة واحدة، وبين من يريد تصفيتها بالمفرّق.
بدأت المحاولة الجديدة من مدخل مختلف، وهو الوحدة الميدانية في مواجهة مؤامرة ترامب، خلال المؤتمر الصحافي لجبريل الرجوب وصالح العاروري في 2 تموز الماضي، ثم تجاوزته في اجتماع 3 أيلول الماضي للأمناء العامين، وركّزت على إجراء الانتخابات المترابطة المتتالية، ثم تطوّر الأمر بعد لقاء إسطنبول ليتم التوافق على تشكيل قائمة مشتركة لخوضها وفق التمثيل النسبي، (أشار العاروري في مقابلة مع قناة الأقصى عن وجود توجّه لدى حركتي فتح وحماس لتشكيل قائمة مشتركة، رغم تأكيد ذلك أحيانًا من قادة من "فتح" ونفيه في أحيان أخرى)، وتم الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة بعد الانتخابات.
كما ووضع على جدول أعمال الحوار القادم، بعد صدور المرسوم الخاص بالانتخابات، الاتفاق على بقية الملفات (المنظمة، انفصال غزة، آثار الانقسام، حسم الموقف من اتفاق أوسلو، دولة أو سلطة وغيرها من القضايا)، في نية لوضع هذه الملفات لحسمها على عاتق المجلس التشريعي القادم والحكومة التي ستشكل بعد الانتخابات.
من أهم ما يميز الحوارات الجارية أنها تناولت الأساس السياسي، إذ اعتبرت وثيقة الوفاق الوطني المرجعية، وحُسم لأول مرة أنّ الشرعية الدولية هي مرجعية لا يجب التخلي عنها حتى لا يؤدي إنكارها إلى إحكام العزلة على الفلسطينيين، إضافة إلى كونها تتضمن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، خصوصًا حق تقرير المصير الذي يشمل حق إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967.
وتضمنت التفاهمات أنّ من حق الفلسطينيين مقاومة الاحتلال بكل أشكال المقاومة، لكنهم سيعتمدون المقاومة الشعبية في هذه المرحلة، مع الاتفاق على أنّ أشكال النضال تُحسم بشكل وطني، وليس عبر قطاع خاصّ لهذا الفصيل أو ذاك.
كما تضمنت أنّ منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد، وأن انتخابات المجلس التشريعي هي المرحلة الأولى لتشكيل المجلس الوطني، وهناك فكرة مطروحة بأن تتزامن انتخابات المجلس الوطني مع انتخابات التشريعي ليكتمل تشكيل الوطني، على قاعدة أن تجري الانتخابات حيثما أمكن ويتم تعيين بقية الأعضاء من خلال التوافق الوطني. وهذه فكرة جديدة تستحق الاهتمام .
نقاط الضعف والعراقيل
* تتثمل العقبة الأولى في وجود معارضة داخل حركتي فتح وحماس، وخاصة داخل الأولى لدمج "حماس" في السلطة، عبر القائمة المشتركة وفي تشكيل المجلس الوطني، من دون إنهاء سيطرتها على السلطة في قطاع غزة أولًا.
* إن الحوار جارٍ بين عدد محدود من الأشخاص من حركتي فتح وحماس ورغم اعتماد ما يتم التوصل إليه من الحركتين، إلا أنّ هذا الحوار يجري من دون حاضنة فلسطينية أكبر وأقوى، وبلا تصور شامل، إذ يتم التعاطي بشكل حذر أكثر من اللزوم، وبصورة تجريبية وانتقائية، بحيث يتم الانتقال من الوحدة الميدانية، إلى الانتخابات، إلى انتخابات متزامنة للمجلس الوطني، بينما يجب أن يكون الحوار وطنيًا وشاملًا ومنظّمًا ومؤسسيًا ومستمرًا، ولا ينحصر بالفصائل، بل لا بد من أوسع مشاركة وحاضنة شعبية، وخصوصًا من الشباب والمرأة والشتات والمجتمع المدني والمفكرين والأكاديميين والشخصيات العامة المستقلة.
حكومة الوحدة قبل الانتخابات وبعدها
* تجاهلت التفاهمات وضع انفصال قطاع غزة على رأس جدول الأعمال، باعتباره مظهر الانقسام البارز وسبب انقسام المؤسسات، وهذا يستوجب تدارك الأمر ووضع مسألة تشكيل حكومة وحدة أو وفاق وطني على رأس جدول الأعمال للتحضير لإجراء الانتخابات، وتوفير أجواء الثقة والحقوق والحريات، ومعالجة آثار الانقسام، والشروع في توحيد المؤسسات المدنية والأمنية، وضمان حرية الانتخابات ونزاهتها واحترام نتائجها، وأن تكون الجدار الحامي في حال قيام الاحتلال بمنع إجراء الانتخابات . فما دام هناك اتفاق على تشكيل حكومة وحدة بعد الانتخابات، فالأولى والأجدى تشكيلها قبل إجرائها.
* إن عدم التزامن بين إجراء الانتخابات التشريعية مع الرئاسية والوطني، ضمن حل الرزمة الشاملة التي تُطبّق بالتوازي والتزامن، نقطة ضعف في التفاهمات، ومصدر لعدم الثقة وعدم الاطمئنان. فما الذي سيضمن ألّا تكون الانتخابات التشريعية شكلًا من أشكال إدارة الانقسام، وألّا يتم استكمال الانتخابات إذا جاءت نتائجها غير مناسبة لهذا الطرف أو ذاك أو لكليهما، أو إذا استدعت ردود فعل إسرائيلية وأميركية وعربية وإقليمية تجعل من الصعوبة استكمالها؟
وما يشجع على الأخذ بهذا الاقتراح (التزامن بإجراء الانتخابات) وجود توافق على رمزية ومكانة الرئيس محمود عباس، لدرجة التفكير بأن يكون مرشحًا توافقيًا في الانتخابات الرئاسية القادمة.
على أهمية التقدم الحاصل على طريق بلورة برنامج سياسي، لا بد من استكماله، فلا يكفي القول إن أوسلو مات أو دُفِن، فلا يزال هو المرجعية السياسية والقانونية للسلطة، ويحكم علاقات المنظمة بإسرائيل، في حين اكتفت القيادة حتى الآن بتجميد العمل به، وسيعود بقوة أو ما هو أسوأ منه بعد انتخاب رئيس أميركي جديد، وفي ظل الهرولة على التطبيع، لذا لا بد من وضع خطة تفصيلية للتخلص من أوسلو مرة واحدة، أو بالتدريج.
ويرتبط بهذه المسألة ضرورة الاتفاق على كيفية التعامل مع المفاوضات وعملية التسوية، فلا يمكن التخلي عنها بشكل مطلق ومن حيث المبدأ، ولا الاستمرار في الأوهام عن إمكانية التوصل إلى تجسيد الدولة عبر المفاوضات، وتقديم التنازلات، وإثبات الجدارة، فطريق الاستقلال والتحرر يمر عبر اعتماد إستراتيجية كفاحية متعددة الأبعاد، وأشكال العمل السياسي والنضالي على جميع المستويات، المحلية والعربية والإقليمية والدولية، ترتكز على تعزيز مقومات الصمود والتواجد الفلسطيني على أرض الوطن، وتهدف إلى تغيير موازين القوى على الأرض، لتسمح بعقد مؤتمر دولي مستمر وكامل الصلاحيات، ومفاوضات لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة وليس التفاوض عليها، بحيث يتم إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة. فتأجيل البت بهذه المسألة (المفاوضات) وغيرها من المسائل الكبيرة، مثل سحب الاعتراف بإسرائيل، واعتبار المجلس التشريعي القادم برلمانًا لدولة فلسطين تحت الاحتلال، ووضعها على عاتق الحكومة والمجلس القادم، يعني تحميلهما ما لا طاقة لهما به، ويعدّ بمنزلة لغم كبير يمكن أن ينفجر في أي وقت.
القائمة المشتركة ... تعيين أم مبررة
* إن طرح مسألة القائمة المشتركة التي طرحت لأول مرة في العام 2012، وأُعيد طرحها أكثر من مرة، خصوصًا في العامين 2016 و2019، رغم الملاحظات الجوهرية عليها، له ما يبرره. فإجراء الانتخابات الحرة النزيهة التي تحترم نتائجها تحت الاحتلال، الذي يتدخل في كل مراحلها ويستطيع أن يمنعها في القدس وغيرها، ويصادر نتائجها إن أراد، ومن دون عملية سياسية وضوء أخضر، إسرائيلي أميركي وعربي وإقليمي ودولي؛ عملية نضالية تستغرق وقتًا، وهي كذلك عملية صعبة وشبه مستحيلة على المدى المباشر، مع أهمية العمل على إجرائها كمسألة كفاحية، لا سيّما أنّ الفلسطينيين في ظل الانقسام الذي تجذّر، وأوجد مصالح ومراكز وأوضاعًا سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية وقانونية لا يمكن التغلب عليها إذا خضنا انتخابات مغالبة وليس مشاركة، فالانتخابات الحرة التنافسية تحت الاحتلال لا بد أن تكون في إطار الوحدة. أما في ظل الانقسام، فستعيد إنتاج الانقسام.
إذا خضنا الانتخابات من أجل الحسم بين أي فصيل أو فصائل لديها الأغلبية، ومن حقها أن تحكم وفق برنامجها في ظل الانقسام وتعدد الأجهزة الأمنية والسلطة القضائية والوزارات والموظفين وأجنحة عسكرية متعددة لفصائل المقاومة تستخدم في ظل تعطيل المقاومة لخدمة هذا الفصيل أو ذاك، وفي ظل انتشار السلاح، وتزايد العنف الداخلي والفوضى، وانتشار اليأس والفردية وبدون أفق سياسي، والاحتلال المتربص والجاهز للتدخل لمنع توظيف فوز فصيل من فصائل المقاومة العسكرية؛ فيمكن أن تقود الانتخابات في هذه الحالة إلى تكريس الانقسام، وإلى المزيد من الشرذمة.
فإذا فازت "حماس" لن تتمكن من الحكم في الضفة، حتى لو أراد الرئيس و"فتح" تمكينها من ذلك، وإذا فازت "فتح" لن تتمكن من حكم غزة، لأنها تحت سيطرة "حماس" التي لن تتنازل عن السلطة، خصوصًا إن لم تكن شريكة كاملة في السلطة والمنظمة، في انتخابات لا يمكن أن تفوز فيها حتى إذا فازت في صناديق الاقتراع، لذا لا بد من الاتفاق المسبق على الاحتكام إلى قواعد العمل الجبهوي المنسجمة مع مرحلة التحرر الوطني.
* نقطة في غاية الأهمية لا بد من الاتفاق عليها، وهي مسألة المقاومة وسلاحها في سياق حل الرزمة الشاملة، التي تتضمن برنامجًا وطنيًا متكاملًا، وشراكة سياسية حقيقية. وهناك حل وارد في وثيقة الأسرى يتمكن اعتماده وتطويره، واقتراح آخر قدمه يحيى السنوار يقضي بتشكيل جيش وطني يضم جميع الأجنحة العسكرية يخضع للمؤسسات الوطنية الموحدة والشرعية.
إن من حق "فتح" و"حماس" والفصائل أن تخوض الانتخابات بقوائم منفصلة أو بقائمة مشتركة شرط - حتى لا تتحول إلى تعيين أو إعادة إنتاج النخبة الحاكمة هنا وهناك، وبنفس البرامج المتنافسة والمتصارعة - أن تستند إلى برنامج وطني كفاحي، ورؤية جديدة، وتجديد الدماء عبر مشاركة الشباب والمرأة وضمن حل الرزمة الشاملة التي يخرج منها الجميع، بمن فيهم الشعب منتصرًا، وهذا يقطع الطريق على قوائم السلام الاقتصادي، واعتبار الواقع الذي أوجده الاحتلال المرجعية الوحيدة للعمل، وليس قائمة انتخابية الهدف منها المحاصصة الثنائية والفوز في الانتخابات، والحفاظ على الوضع القائم من دون تغيير. وطبعًا، يجب ألا تمنع القائمة المشتركة في كل الأحوال تشكيل قوائم لمن يرغب.
* من نقاط الضعف التي تعتري التفاهمات أنها أعطت الأولوية لانتخابات المجلس التشريعي، حتى لو اعتبرت مرحلة أولى للمجلس الوطني، رغم أن إجراءها ليس بيد الفلسطينيين وحدهم، ووضعت في المؤخرة مسائل مهمة، مثل مقاومة الاحتلال التي يجب أن يكون لها الأولوية، وذلك رغم صدور بيان رقم واحد للقيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية الذي لا يغدو أكثر من إعلان، ولم يرافقه خطة وكفاح منظّم على الأرض ومشاركة للشعب في الحوار والقرار. فالشعب هو الذي سيحمل عبء المقاومة، ولن يفعل إلا عندما يتيقّن بجدية ما يجري، وأنه جزء من مسار جديد إستراتيجي وليس تكتيكيًا.
قد تكون المحاولة الحالية لإنجاز الوحدة الفرصة الأخيرة، والشعب والتاريخ لن يرحما المتسبب أو المتسببين بإهدارها. وعلى العناصر والمجموعات والقوى الأكثر وعيًا وحرصًا عدم الانتظار للتغيير الشامل أو الدروان في فُلك هذا القطب أو ذاك، بل التحرّك للضغط من أجل إنجاز وحدة قادرة على الإقلاع بالمشروع الوطني، وليس محاصصة ثنائية أو عامة.