برز موضوع هجرة الشباب الى سطح الأحداث فلسطينياً خلال الأيام الأخيرة بصورة أكثر وضوحاً وتداولاً، خاصة بعد تقارير إخباريةتحدثت عن عدة حوادث غرق لقوارب وسفن تحمل مهاجرين فلسطينيينمن قطاع غزة أو بلدان مجاورة خلال محاولاتهم الهجرة تهريباً عبر البحر الى دول أوروبا. وأخذ الموضوع زخماً واسعاً في الإعلام المحلي، وزخماً أوسع في وسائل التواصل الإجتماعي، من خلال الكثير من التعليقات والكتابات التي تعكس حجم وطبيعة الإهتمام بالموضوع وأسبابهوإنعكاساته. متابعتي الأولية لهذا الحدث وتداعياته، التي أعتقد أنها لا زالت في بداياتها حتى الآن.دفعتني للتركيز على محورين من محاور الكيفية التي يتم التعامل بها مع موضوع هجرة الشباب الفلسطيني.
المحور الأول: الإستخدام السياسي للموضوع وتداعياته،عبر "الغمز واللمز" أحياناً وصراحةً أحياناً أخرى، وزج الموضوع، أو إستغلاله، في الخلافات السياسية والفصائلية الداخلية، وحيث أن بعض حوادث الغرق كانت لشبان من قطاع غزة، سارع البعض،وعلى قاعدة المقولة "مصائب قومٍ عند قوم فوائد"، الى طرح جملة من التساؤلات التي ربما تهدف الى توجيه النقد لسيطرة إحدى القوى السياسية على القطاع، ولسان الحال هنا يقول "أنظروا ما هي نتيجة السيطرة الفئوية على القطاع"، في إشارة الى أن ذلك هو ما يدفع الشبان الى الهجرة والهرب من هذه الممارسات.
المحور الثاني: عزل الموضوع عن محيطه وسياقه المجتمعي العام. فمن جهة أولى توجه كل الأنظار، وهذا ضروري وهام ولكنه غير كافي، الى بعض حوادث الغرق هذه. في حين يجري تجاهل هجرة الشباب عامة الى خارج الوطن،رغم انها ظاهرة منتشرة، وهي تتم بصمت وهدوء في غالبية الأحيان، ولا تقتصر على قطاع غزة فقط، بل تشمل كل الوطن ويهاجر آلاف الشبان والكفاءات العلمية والأكاديمية بحثاً عن العمل، أو الهدوء والإستقرار. من جهة ثانية جوهر البحث، أو ربما كل ما يقال حول الموضوع يتحدث عن حلول ومعالجات أمنية، عبر القبض على المهربين أو حتى المهاجرين.. أو غيرها من المعالجات الأمنية، حيث سارع الناطق باسم "وزارة الداخلية في قطاع غزة" الى إصدار تصريح يشير فيه الى أن الوزارة قبضت على بعض المهربين الذي يعملون بتجارة تهريب "البشر". ومن جهة ثالثة تجاهل إرتباطات الموضوع مع عدد من الظواهر الإجتماعية الأخرى، وهي لا تقل خطورة عن قضية الهجرة.
بغض النظر عن الخلافات والإعتبارات الفئوية، فإن هناك جملة من الظواهر الاجتماعية التي ينبغي التعاطي معها بكل جدية، ويجدر أيضا النظر لها بمنظور اجتماعي- سياسي يهدف قبل كل شيء الى التشخيص الصحيح والبحث عن الأسباب الحقيقية والعميقة، ومن ثم وضع الحلول والمعالجات، بعيداً عن المناكفات بين الأطراف والقوى السياسية الفلسطينية. كما يجدر النظر لهذه الظواهر في ترابطها وعلاقتها مجتمعة مع بعضها البعض ومع حالة التفكك والإنقسام السياسي التي تترك بصماتها على كل على تفاصيل وجوانب حياة مجتمعنا.
القول بأنه تم القبض على مجموعة من "مهربي البشر"، أو تجار ومهربي المخدرات أو السارقين. أو القول بأنه تم القبض على قاتلي النساء، أو المعتدين على الأطفال والمسنين، أو تجار ومروجي السلع والمنتجات الفاسدة، أو السارقين والنصابين. أو القول بالتحقيق في ملفات فساد وإختلاس المال العام، أو قضايا المحسوبية وإستغلال المنصب، أو التحقيق في قضايا الاعتداء وإنتهاك حرمات البيوت والمؤسسات، أو التهديد ومحاولات تكميم الأفواه. كل ذلك لم يعد كافياًلنا كمواطنين لأننا لا زلنا نسمع عن إرتفاع عدد حالات القتل، وقتل و/أو الاعتداء على الحقوق المختلفة للنساء والأطفال والمسنين والمعاقين.. وغيرها من الفئات الضعيفة، ولا زالت السرقات والنصب والإحتيال وترويج المواد الفاسدة والقمع السياسي،وإرتفاع الأسعار في كل المجالات، وفرص العمل التي تضيق أكثر وأكثر ، والتمييز على أساس الإنتماء السياسي أو حتى العائلي أو الجنس أو غيره في توسعوإزدياد. وكل ذلك يقع، ويجب ان يكون في أهم محاور البحث عند مناقشة هجرة الشبان والكفاءات.
أن تُذبح إمرأة في الشارع العام ليس حالة فردية وشخصية، وكذلك أن يقتل الإبن أباه، أو الأب إبنه، ليس له مبررات شخصية فقط، وكذلك الحال بالنسبة لترويج السلع الفاسدة أو المخدرات. والإعتداء على الخصوم السياسيين ليس حكراً على فئة أو حزب واحد فقط دون غيره. وهدر المال العام وإختلاسه، والإعتداء على الحقوق والحرمات وإنتهاكها، والبطالة وغيرها من الظواهر لم تعد حالة فردية وشخصية. كل ذلك أنما يشكل مؤشرات على حالة من الفشل للنظام السياسي، الذي يقف عاجزاً عن التصدي الحقيقي لهذه المشكلات ومعالجتها جذرياً، بل الأسوأ من ذلك أن يستخدمها في مجال الصراع الداخلي، الذي لا يزال يتدحرج ككرة الثلج، مدحرجاً معه كامل الإستقرار والسلم الإجتماعي. إنها دقات متواصلة على جدران الخزان، لمجمل النظام السياسي، ويشمل ذلك التقاعس أو التراخي أو التقصير، أو التنكر للدور والمسؤوليات، التي لم تعد أعذار تغني أو تسمن من جوع، والجميع هنا "أصحاب خطيئة".
لم يعد كل ذلك كافياً لنا كمجتمع في ظل غياب إرادة سياسية تضع في سلم أولوياتها المجتمع والمواطن عامة، والفئات الضعيفة والمهمشة بشكل خاص كالشباب والنساء والأطفال والمعاقين وكبار السن، كما لم يعد مقنعاً لنا أن تستخدم هذه القضايا في باب المناكفات السياسية ليس إلا. ولم يعد مقنعاً أيضاً الحديث عن هذه القضايا منفردة، أو معالجة إحداها دون الأخرى. ولم يعد حتى الصمت وعدم إعلاء الصوت مقنعاً أيضا، لأنه لم يعد كافياً تغطية الرأس، هذا إن تم تغطيته فعلاً، وترك بقية الجسد مكشوفاً ومكشّفاً. الشيء الوحيد الذي يغير القناعات هو البحث في العمق حول مجمل هذه الظواهر الإجتماعية والتشخيص المناسب لها، ووضع الحلول والعلاج الجذري.
نبيل دويكات
رام الله- 15أيلول 20214