ما يقارب الاثنا عشر عاماً وستٌ وعشرون عيداً كانت أمواج الحنين والشوق تتلاطم فيها على بحر الغربة ، ترتسم بيت لحم في مخيلة أبنائها المبعدين ، يرسمون في أحلامهم شوارعها وأزقتها وحاراتها العتيقة ، يتطلعون إلى نهاية حقبة سوداء وحكاية من حكايات الشعب التي ضاعت بين مطرقة الاحتلال وسندان الإهمال والنسيان.
في سرقسطة ، إلى الشمال من إسبانيا ، يمكث عزيز عبيات والذي لم يكن يدرك حين لجوئه إلى كنيسة المهد أنها ستكون آخر محطات المكوث في الوطن ، قبل أن ينتقل إلى عالم جديد ، هو فيه أسير وغريب ، تخنقه عَبَرات الحنين وتأسره الذكريات ويغالبه الشوق إلى نسيم هوائها.
ويستعيد عزيزعبيات (43) عاماً وهو أب لأربعة من الأبناء مناصفة بين الذكور والإناث ويحمل درجة الماجستير في الصحة العامة والطب الوقائي لحظات الحصار العصيبة الأولى قائلاً : "تحت وطأة قصف القصف الصهيوني الذي شاركت فيه طائرة مروحية والعشرات من الدبابات ، اضطر عدد كبير من المواطنين ورجال الأمن الفلسطيني إلى اللجوء إلى كنيسة المهد " مشيراً إلى أن دحول الكنيسة لم يكن مخططاً له إطلاقاً وإنما وجد المقاومون والمواطنون ورجال الأمن أنفسهم وسط حصار صهيوني مطبق.
ويتابع قائلاً : " أحكمت القوات الصهيونية الحصار حول الكنيسة للضغط على بعض المطلوبين داخل الكنيسة لتسليم انفسهم وطالبت ستة أشخاص من المحاصرين داخل الكنيسة تسليم انفسهم أو الإبعاد خارج فلسطين كشرط لفك الحصار عن الكنيسة " ، ويضيف " تواصلنا نحن الاشخاص الستة مع وفد من شخصيات بيت لحم تشكل للتفاوض مع قوات الاحتلال حول هذا الشرط " ولكن المفاجأة وحسب عبيات فإن الوفد المفاوض تفاجأ بوفد مفاوض آخر والذي بدوره اتفق دون علم المحاصرين مع الاحتلال على إبعاد 13 محاصراً إلى اوروبا بدلاً من المحاصرين الستة الذين جرى التفاوض حولهم بداية الأمر كما تبين أن الاتفاق يشمل إبعاد 26 آخرين الى قطاع غزة ..
ومع حلول العيد الأول عام 2002 كان يظن عزيز ورفاقه المبعدون أن العيد القادم سيكون في بيت لحم ، هكذا على الأقل كانت الأمنيات ، وكانت التوقعات بعد أن رشح أن الاتفاق المبرم كان يقضي بالإبعاد ما بين عام وثلاثة أعوام ، غير أن ما اتضح لاحقاً شكّل صدّمة للجميع ، حيث لم يكن يدور في خلد أيٍّ منهم أن الإبعاد سيستمر إلى اثني عشر عاماً ولربما إلى المجهول.
أما عن الأوضاع المعيشية فيتحدث عبيات " نخضع منذ إبعادنا وحتى اليوم إلى إجراءات أمنية من جانب الدول التي نتواجد فيها ، فمثلا نحن في إسبانيا مطلوب منا التواصل مع جهاز المحابرات هنا أسبوعياً ونمنع من العمل وتفرض علينا الاقامة في المدينة التي تختارها لنا السلطات هنا" .
العيد في إسبانيا
لحسن الحظ و(الحديث لعزيز) بأن العيد هذا العام سيصادف يوم السبت مما يعني عطلة الأولاد عن مدارسهم ، وبإمكانهم المشاركة في أداء صلاة العيد ، هكذا بدا متفائلاً مبتهجاً ، أما عن صلاة العيد في سرقسطة فيقول عزيز " المساجد عندنا في هذه المدينة عبارة عن كراجات تحت البنايات السكنية نستأجرها ونصلي فيها أما في الاعياد نستأجر أماكن واسعة كملاعب رياضية ونتجمع فيها لصلاة العيد وبعد الصلاة ينطلق كلٌّ إلى بيته وتنتهي مظاهر العيد عند هذا الحد ".
أما عن أجواء العيد فيلتئم شمل الجالية العربية والعمال والموظفين المسلمين لتأدية صلاة العيد ، ويجتمعون ثم ما يلبثوا أن يفترقوا إلى منازلهم وأماكن عملهم ، في الوقت الذي تفيض فيه الأشواق إلى لقاء وجَمعة الأقارب والزيارات العائلية التي يفتقدها المبعد والمغترب عن أرضه.
ومع حلول العيد السادس والعشرون في غربته ، لا يزال حلم العودة يراود عزيز ورفاقه المبعدين ، وحلم الاجتماع بالأهل والأحباب في ربوع أرض فلسطين يؤرّق العيون والأجساد ، غير أن الأمل والرجاء لا ينقطع ، ويصرّ المبعدون من غربتهم على مشاركتهم أهلهم وذويهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاتصال الحديث والتي تخفف من ألم البعد والفراق ، ومتحديّن قرار المحتل وإجراءاته القمعية الإجرامية.
ولا يزال عزيز عبيات ورفاقه في أوروبا وفي غزة يطمحون باهتمام رسمي وشعبي أكبر مع قضيتهم التي لا تزال تراوح مكانها منذ العاشر من أيار في العام 2002 ، ويتطلعون إلى عيد قريب في أحضان الأهل وربوع الوطن السليب.