حين يتجلى حضور الإرادة في قلب رجلٍ، فإنه يُسجل إنجازات لا تحدها الظروف ولا الأمكنة، وحين يُصاحبه الإيمان، فلا عجز ولا تراجع ولا يأس، همةٌ تُخجل كل متحججٍ بشماعة الأوضاع الصعبة، وصبرٍ يملأه الرضا، ليقوده إلى صنع حياة فريدةٍ وأنموذجاً يحتذي به المبصر قبل الكفيف.
محمد صابر شحادة (58 عاماً) "أبو الطيب" من عنبتا بمدينة طولكرم، أب لستة من الأبناء، يعمل في رعي المواشي في حظيرة بيته الخاصة، يُمضي ساعات يومه بين إطعامٍ لها وتنظيف وجلب للحليب.
فقدان للبصر
بدأ شحادة مشواره مع تربية المواشي، حين التحق بالجامعة، ليُربي بقرة واحدة، يتعهدها بالاهتمام وتمنحه الحليب ليبيعه في الأسواق، سعياً منه في توفير مصروفه الخاص ورسوم جامعته الدراسية.
لم يتوقف قط عن العمل والإنتاج، لكن وتيرة الحياة بدأت بالاختلاف رويداً رويداً، حين بدأ بفقدان بصره تدريجياً منذ 25 عاماً، إلى مرحلة الفقدان الكامل منذ 18 عاماً، وطيلة هذه السنوات لم يتخلَ يوماً شحادة عن الكد والاجتهاد والسعي في رزقه.
ويقول "شحادة" الذي حصل على بكالوريس في قسم الرياضيات، في حديث لـ "وكالة سند للأنباء"، إنه حين كان يدرس في الجامعة، اقتصر عمله على بقرة، وبعد انتهاء دراسته بدأ بزيادة العدد لاثنين، وتوسيع مشروعه شيئاً فشيئاً، إلى أن امتلك 10 بقراتٍ يرعاها ويستثمر في حليبها.
ويبيّن "شحادة" أن أبقاره ألفته فحين يضع لها الأعلاف تُسارع نحوه ولا يتخلف أي منهم، إلا من حجبها المرض، ويداوم على وضع الطعام لأبقاره من سنوات مرتين يوميًا إحداها صباحًا والأخرى عصرًا.
بعد جولة الطعام الصباحية يحلب الحاج "محمد" أبقاره ويصنع من إنتاج الحليب "لبنة"، في حين يكتفي بتعبئة إنتاج جولة العصر بعلبة سعة لتر ويقوم ببيعها للبقالات، ويداوم على هذا الروتين من سنوات طويلة بشكل يومي، كما يُحدثنا.
سند نفسه
وحول إمكانيته تربية أبقاره منذ سنوات لوحده، وكيفية معرفته لكل بقرة على حدا يضيف: "حين فقدت البصر، أصبح اعتمادي الكامل على الحس في التعامل مع كل شيء حولي، ومنهم الأبقار، حيث أن لكل بقرة علامة خاصة بها تميزها عن غيرها".
ومن تلك العلامات التي يذكرها "ضيف سند" شكل رأس البقرة، هل تملك غّرة في مقدمة رأسها، أو شكل قرونها، هل يحيط بها حبل أو لا، في وجود رقم من عدمه.
وتساءلنا حول إن كان يواجه بعض الصعوبات في عمله بسبب فقدان النظر، فأجاب: "عادة تستجيب الأبقار، لكن في حال عدم استجابة إحداهن، ويكون جميع أفراد البيت نائمين، إما أنتظر، أو أمشي بين الأبقار، فتدرك البقرة أنها مقصودة، فتأتي".
ويتابع: "أحياناً أنادي على إحدى بناتي، فتقف على النافذة وتخبرني بمكان البقرة تماماً في المزرعة، وأصبح كآلة التحكم، مثلاً يمين، للأمام قليلاً، للخلف وهكذا، حتى أصل للبقرة المطلوبة، ومن حسن الحظ أن المزرعة ملاصقة لبيتي تماماً".
"شحادة" الذي يعمل لسنوات في مزرعته دون مساعدة أحد، لم يرق له أحداً من العمال، حيث أنه جرّب أكثر من مرة لكن بابتسامةٍ يقول "ما يتوافق عقلي مع عقلهم".
لطائف الله
وحول طريقه تسويقه لإنتاجه من الأبقار، يوضح أنه حين كان النظر حاضراً ولو كان ضعيفاً كان يحمل الحليب على دراجته وينزل للبلدة من أجل بيعها، ومنذ 6 سنوات ماضية تعلمن بناته قيادة السيارة، وأصبحن يُساعدهن بالوصول إلى المكان الذي يريد بينما يتولى هو البيع والتوزيع.
قد يُفكر أحدنا أنه "أبو الطيب" قد يتعرض لبعض المشاكل بسبب فقدانه للبصر، لكنه يقطع حبل تفكيرنا وسؤالنا بالقول "والله كل حاجة بتصير معي رسائل رحمة من ربنا، اللي فش حد أحن علينا منه".
وعن تلك المواقف يسرد "أن الله يلهمه الصواب في كثير من المرات حين يتعامل مع الأبقار، حيث يُخرج إحدى البقرات لوحدها فتجدها أنجبت بعد يوم أو يومين من خروجها، وهذه تدابير الله اللطيفة ومعيته معه كما يردد دائماً".
في إحدى المرات تناطحت بعض البقرات مع بعضها البعض، فصدمت إحداهن "شحادة" بالخطأ، وعن ذاك الموقف يرد: "والله كل شيء بصير للإنسان خير، كان ظهري يؤلمني كثيراً، لكن بعد الضربة خف الألم كثيراً، وهذا كرم من الله".
ويؤكد "شحادة" أنه يجب على الإنسان أن يسير ويتوكل على الله، وهو لا يترك أحداً خلقه، وهو الأعلم في نفوسنا أكثر منا.
ويلفت ضيفنا إلى أن الأمر الذي جعله يخرج للإعلام، من أجل إيصال رسالة واحدة مفادها أنه يجب ألا يركن أحداً على غيره، وألا يكون عالة أبداً، بل يسعى وينطلق في هذه الحياة، ومن أراد شيئاً سيصل إليه عاجلاً أم آجلاً.
أنتَ قادر
وخلال حديثنا مع "أبو الطيب" ذكر أنه في إحدى المرات جاءت موظفة من الشؤون الاجتماعية من أجل تسجيله لدى قوائمها لتلقى المساعدات، لكنه رفض الأمر بشكل قاطع، وحين تفاجأت برده أخبرها "أنا لست بحاجة لأحد، أنا أعمل وأسعى، وطالما يملك الإنسان الإرادة يستطيع أن يصنع ويعمل كل شيء".
ويؤكد بنبرةٍ عالية أن الإنسان مجرم بحق نفسه إن كان "يستطيع ولكنه يركن إلى غيره، إذا كانت لديه المقدرة، فلماذا لا يعمل ويقبل العيش تحت جناح ورحمة أحد، كل إنسان قادر لكن هناك فروق بالقدرات، وكمية الإنتاج، ونوعية الإنتاج".
ويأمل "أبو الطيب" في ختامٍ حديثه أمراً واحداً في حياته، أن يكمل أبناءه جميعاً مرحلة الدكتوراة كلٌ في تخصصه، وأن يراهم في أعلى المراتب، وأن يستمروا في السعي والعلم حتى آخر لحظة، خاصة وأن أغلبهم أنهوا مرحلة الماجستير أو في طورها.
سند