يستذكر العراقيون في كلّ عام ما يسمونه بـ"اليوم الأسود" حين كشّر الليل عن أنيابه للأطفال والنساء والطاعنين في السنّ قبل بزوغ أولى خيوط الشمس عند الساعة الرابعة والنصف فجر يوم الثلاثاء 13 من فبراير/شباط عام 1991، إذ قصفت مقاتلتان أميركيتان أحد الملاجئ بحي العامرية وسط العاصمة بغداد في إطار عملية عاصفة الصحراء التي شنّها تحالف دولي لإخراج القوات العراقية من الكويت.
القصف الأميركي نُفّذ بقنبلتين ذكيّتين صُنعتا خصيصًا لضرب الملجأ الخرساني رقم 25، اخترقت أولاهما السقف المحصّن، في حين وصلت الثانية إلى داخله فأوقعتا معًا نحو 408 قتلى، بينهم 261 امرأة، و52 طفلًا، أصغرهم لم يتجاوز عمره 7 أيام، فضلًا عن 26 مواطنًا عربيًا.
ملجأ محصّن
شُيّد الملجأ مع مجموعة ملاجئ أخرى على يد شركات غربية إبان الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، على أمل أن يكون مقاومًا في تصميمه، وهو مجهّز للتحصن ضد الضربات الكتلوية أي الضربات بالأسلحة غير التقليدية الكيميائية أو الجرثومية، ومحكم ضد الإشعاع الذري والنووي والتلوث الجوي بهذه الإشعاعات، ويتّسع لـ1500 شخص، يمكن أن يلجؤوا إلى داخله أياما دون الحاجة إلى العالم الخارجي، فهو مجهز بالماء والغذاء والكهرباء والهواء النقي غير الملوث.
وتتكون البناية من 3 طوابق، مساحة الطابق 500 متر مربع، وسمك جداره يزيد على متر ونصف المتر، كذلك سقفه مسلح بعوارض حديدية سمكها 4 سنتيمترات، وتؤدي أبواب الطوارئ الخلفية إلى السرداب أما سلالمه الداخلية فتؤدي إلى الطابق الأرضي حيث كان يقيم الملتجئون.
وعن مجزرة ملجأ العامرية يقول الصحفي علي كريم إذهيب إن أحد أقربائه يدعى أبو طيبة (40 عامًا) كان مع عائلته المكونة من 3 أطفال وزوجته في الملجأ، وما زالت ذاكرته تحتفظ بما سرده له والده عن تلك اللحظات المروّعة عندما لم يعثروا على أي من بقايا العائلة سوى سلسال الطفلة البالغة من العمر 4 أعوام.
ويضيف إذهيب نقلا عن والده "كانت المشاهد في الملجأ بعد قصفه بشعة، إذ تحولت مئات الجثث إلى رماد، وانتُشلت جثث أخرى محترقة تماما وقد اختفت معالم أصحابها".
وجسّدت الحادثة الأليمة أعمالٌ نحتية وفنية، أبرزها النصب النحتي التذكاري الذي يتمثل في إظهار رأس إنسان من بين قوالب حجرية متينة محيطة به تجعل بشرة الوجه مشدودة بإفراط قاس مع معالم سطحيه متوترة كثيرة الظلال، أما تكوين الفم فيُوحي بصرخة متصلّبة أزلية.
الفجر الحزين
كما أنجز فيلم روائي بعنوان "الفجر الحزين" من تأليف الكاتب العراقي صباح عطوان، وإخراج صلاح كرم، والموسيقى التصويرية لنصير شمه، ليجسّد هذه الفاجعة. واستند عطوان إلى الشهود من أُسر الضحايا لإعطاء القيمة الفعلية لرمزية الفاجعة بتصوير المشاهد من داخل الملجأ نفسه.
ويرى عطوان في الفيلم رمزية تاريخية أمينة عن الحادثة، إذ لم تزيّف فيه الحقيقة ولا حتى بحرف واحد معتبرا إياه بمنزلة الواجب الإنساني والأخلاقي والوطني.
وقال إن الفيلم لقي نجاحا كبيرا، وتُرجم إلى الإنجليزية والفرنسية، وحظي برضى الشعب العراقي، وأحرج الولايات المتحدة التي تذرّعت بأعذار مختلفة للتنصل من جريمتها.
وفي حديثه -للجزيرة نت- أكد عطوان أنه كتب السيناريو بناء على مساعدات لوجستية حصل عليها من خارج مؤسسة الإذاعة والتلفزيون آنذاك.
أسئلة وغموض
ورغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على القصف الأميركي فإن عددا من الأسئلة ما زالت تحوم حول الحادثة دون وجود إجابات واضحة عنها؛ أبرزها كيف حصلت المخابرات الأميركية على المعلومات الدقيقة المتعلقة بالملجأ؟ ومن أين حصلوا على المعلومات الخاصة بذلك؟ وما احتمال أن تكون هناك مصادر مقرّبة من صدام حسين سرّبت ذلك وتعاونت معها عن طريق التجسّس؟
يجيب الخبير الأمني عدنان الكناني عن هذه الأسئلة وغيرها بإقراره وجود تعاون سابق بين مصادر من نظام صدام حسين مع الإدارة الأميركية، معزّزًا كلامه بحادثة وقعت قبل القصف بدقائق عندما أخبر الرئيسَ الراحل أحدُ مرافقيه الشخصيين بضرورة مغادرة المكان لوجود نوايا بقصف الملجأ من الطائرات الأميركية، وفعلًا وقع ذلك بعد بضع دقائق من مغادرته الملجأ.
ويرى الكناني -وهو الذي عمل ضابطًا برتبة عميد في قوات الحرس الجمهوري قبل الغزو الأميركي للبلاد عام 2003- أن هذه الجزئية وغيرها تُعطي مؤشرًا واضحًا على وجود تعاون مع الإدارة الأميركية لقصف الملجأ مع مصادر من نظام صدام حسين، إضافة الى وجود اختراق للنظام.
ويعزز الكناني كلامه بالتساؤل عن سرّ إخبار صدام حسين من أحد مرافقيه بضرورة إخلاء الملجأ لوجود نوايا قصف له، وكيف سرّبت المعلومات حينئذ عن القصف حتى بلغت مكتب الرئيس العراقي الراحل؟ ويضيف -في حديثه للجزيرة نت- أن هذه المؤشرات تؤكد وجود تواصل بين الإدارة الأميركية مع مصادر مقرّبة من نظام صدام.
وفيما إذا كانت تسويغات الولايات المتحدة منطقية بأن الملجأ كان مقرّا عسكريا، يؤكد الكناني أن القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية استخدمت الطابق السفلي للملجأ مقرّا لها.
وجهة نظر تاريخية
صفحات التاريخ الأميركي ممتلئة بكثير من المشاهد المرعبة ضد المدنيين العزّل سواء كانت بحروب دامية أو بقصف جوي، وتعدّ جريمة ملجأ العامرية واحدة من الشواهد على ذلك، كما يقول أستاذ التاريخ في جامعة بغداد، عبدالكريم الأعرجي، واصفا هذه الجريمة بأنها "وصمة عار" في وجه صنّاع القرار العسكري والسياسي في أميركا.
ويؤكد الأعرجي -في حديثه للجزيرة نت- أن الولايات المتحدة حصلت على معلومات سريّة عن الملجأ عن طريق تقنيّاتها التكنولوجية العالية، ويرى أن الضربة الأميركية لم تك عبثية بل كانت موجعة جدا وأن الغرض منها كان قتل الأبرياء فقط.
واستذكر مشاهد مما عاشه في تلك اللحظات مثل أغلب الشعب العراقي، وكيف كان العراقيون يعيشون حالة رعب جراء القصف وأصوات القذائف الأميركية التي كانت تسقط عليهم وتستهدف المدنيين والأبرياء.